حكمة الجدجد

29 مارس 2019
بشر قوشجي/ سورية
+ الخط -
منذ أن ظهرت الرواية كنوع أدبي مستقل في التاريخ، صار بوسع الناس أن يعثروا على أصواتهم في عالمين متوازيين: الأول هو العالم الواقعي الذي يعيشون فيه، حيث تتشابك الكثير من وجهات النظر حول المسائل التي تهمهم، سواء كانت تتعلق بمعيشتهم اليومية، أم كانت تنشغل بقضاياهم الفكرية والسياسية والدينية. أما الثاني فهو العالم الخيالي، أو العالم الروائي، حيث يمكن أن تجتمع وجهات النظر المتعددة، فيقدّم كل من المشاركين في الرواية نظرة مختلفة عن نظرة الآخر، قد تتقاطع معه في جانب من الجوانب، أو تخالفه في جانب آخر.

وفي الرواية، تظهر وجهة النظر أكثر وضوحاً وصراحة مما هي في الواقع، فالمقياس النقدي لقوة الرواية هو قدرتها على تقديم وجهات نظر الشخصيات دون التعدّي على أي واحدة من بينها من قِبل الكاتب الروائي، ولدينا الكثير من الروايات التي استطاع الروائيون فيها أن يمنحوا شخصياتهم استقلالاً فكرياً ونفسياً يمكّنهم من التعبير عن أنفسهم في النص.

غير أن الاختلاف يظل في الحدود التي يجب ألا تخلق أي عداوة أو خصومة بين الطرفين، إذا ما كنّا نتحدث عن عالم تُحترم فيه الآراء المختلفة خارج ما يبدو أنه سلطة الكاتب، أو يمكنهم من إجراء حوار عام في ما بينهم، يتّسم بالتفهم وقبول الرأي الآخر، أي ما يمكن أن نطلق عليه اسم الحوار الديمقراطي.

بينما نجد أن الواقع لا يقدّم لنا مثل هذه الفرص، وفي الغالب فإن السائد في عالمنا العربي هو تدجين وجهات النظر، أو قمعها، ومن النادر أن تحترم في الواقع الذي تخاطبه الرواية، أو تعكس عوالمه، أو تعيد تشكيله. وهي مفارقة تبدو شديدة السخرية، حيث يدور أحياناً شكلان من "الحوار" (أو وجهات النظر): أحدهما تديره السلطة نفسها بحيث لا يزيد عن أن يكون حواراً مع ذاتها، والآخر حوار طرشان يدور أحياناً بين من يدّعون أنهم معارضون، ولا يبدو فيه أن أحداً يعرف ما الذي يقوله الآخر.

سبق أن قدّم الكاتب الإيطالي كارلو كولودي في روايته الجميلة "بينوكيو" مشهداً لطيفاً يسخر فيه من مثل هذه الطرق، فيروي لنا أن الحورية ذات الشعر الأزرق أحضرت الغراب والبومة والجدجد، وهم الأطباء المتوفرون في الغابة، لعلاج دمية الخشب بينوكيو الذي شنقه الثعلب والقط على غصن شجرة وسرقا ماله.

يقول الغراب: "حسب اعتقادي فإن الدمية ميتة تماماً، ولكن لسوء الحظ إذا لم تكن ميتة، عندئذ هذا سيكون دليلاً قاطعاً على أنها لا تزال حية".

غير أن البومة تختلف معه في الرأي فتقول: "أنا آسفة لأنني مضطرة لمعارضة صديقي الغراب، بينما حسب رأيي، الدمية لا تزال حية، ولكن لسوء الحظ إذا لم تكن حية، عندئذ هذا سيكون دليلاً على أنها ميتة فعلاً".

أما الجدجد فادّعى الحكمة وقال: "إن على الطبيب الذي لا يعرف ماذا يقول أن يتوخى الحذر ويلزم الصمت".

المساهمون