سياسة تكميم الأفواه تطيح تقرير "بوتين. الحرب"

18 مايو 2015
ياشين أثناء عرض التقرير وبدت صورة نيمتسوف (فرانس برس)
+ الخط -
يتجلّى مستوى حرية التعبير والنشر في روسيا عند كل اختبار جدي، فقد عاد الخوف من ملاحقة السلطات لأصحاب الرأي المخالف، إلى عقول الناس، وبات يتحكّم بأقوالهم، لا أفعالهم فقط. وفي وقتٍ تُكمّم فيه الأفواه لأسباب سياسية، فإن الأدوات المستخدمة فيه غالباً ما تكون إدارية وضريبية ـ اقتصادية وبوليسية، إلى جانب تخوين من يجرؤ على المعارضة غير الرسمية، واتهامه بتلقي أموال من الخارج، والعمل لمصلحة جهات خارجية تستهدف أمن روسيا واستقرارها ووحدتها.

منذ حوالي الشهر، حاول رفاق السياسي المعارض بوريس نيمتسوف، الذي تمّت تصفيته نهاية فبراير/شباط الماضي، على مقربة من الكرملين، من دون جدوى، طباعة تقرير "بوتين. الحرب"، الذي يتحدث عن دور الكرملين في ضمّ شبه جزيرة القرم واحتمال مشاركة جنود روس في العمليات القتالية في أوكرانيا.

ويشير فسيفولد تشاغاييف، المكلّف من جهة المعارضة بطباعة التقرير، في حديثٍ لقناة "آر بي كا"، إلى أن "عشر مطابع في موسكو وضواحيها، رفضت طباعة التقرير". وأضاف أن "أربع مطابع وافقت في البداية على طباعته وقبضت سلفة لقاء ذلك، ثم رفضت لاحقاً". وكشف تشاغاييف بأن "مدراء أعمال المطابع التي اعتذرت عن طباعة التقرير، أوضحوا أن قرارهم يعود إلى الوضع السياسي في البلاد وإلى مضمون التقرير". 

وعلى الرغم حالة الخوف، تمكن رفاق نيمتسوف من طباعة ألفي نسخة من تقرير "بوتين. الحرب". وأفاد تشاغاييف، بأن أصدقاء نيمتسوف "قاموا بطباعة التقرير في مطبعة صديقة، وافقت على ذلك من دون عقد، مشترطة عدم ذكر اسمها".

مع العلم بأن بعض المطابع التي اعتذرت عن نشر تقرير "بوتين. الحرب"، كانت قد طبعت سابقاً تقارير لنيمتسوف، ونفّذت طلبات لصندوق "محاربة الفساد" الذي يترأسه المعارض أليكسي نافالني، الذي حوكم وحكم بتهمة "اختلاس الأموال".

وخشيت المطابع في ظلّ المدّ القومي الذي تشهده روسيا حالياً، خصوصاً على خلفية العقوبات الغربية التي أوجعت المواطن الروسي، ومحاولات واشنطن إفشال احتفالات موسكو بعيد النصر على النازية، من نتائج وخيمة قد تترتب على طباعة تقرير، يتهم الكرملين بضمّ القرم وتخصيص أموال ومعدات عسكرية وخطط لدعم منطقة دونباس (التي تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) ضد كييف. تعلم المطابع أن معارضة الرئيس فلاديمير بوتين اليوم، قد تكلّف أصحابها أثماناً باهظة.

من جهتها، رفعت لجنة الطباعة الموسكوفية "ماياك" طلباً لخمس مطابع بطلب طباعة تقرير "بوتين. الحرب"، كما جاء على لسان رئيسة اللجنة آغاتا تشاتشكو لقناة "آر بي كا". وأفادت بأن "جميع المطابع رفضت طباعة التقرير، بمجرد اطلاعها على مضمونه". ولفتت إلى أن "المدة والمبلغ، لقيا قبولها، أمّا المضمون فلا. ولا أذكر حادثة أخرى من هذا القبيل جرت من قبل".

وكان لافتاً تغيّب إحدى المطابع عن نشر التقرير، على الرغم من نشرها تقارير سابقة لنيمتسوف. وذكرت مديرة المطبعة، التي رفضت الكشف عن اسمها، لـ"العربي الجديد"، أن "قرار عدم نشر تقرير بوتين. الحرب، اتُخذ في مطبعتها بعد التعرّف على مضمون البحث الذي يتضمّنه". وأشارت إلى أنه "منذ سنوات عدة مورست علينا ضغوط من السلطة، حين طبعنا تقريراً لنيمتسوف، مع أن الوضع في البلاد كان مختلفاً في تلك المرحلة".
وذكرت أنه "بعد نشر التقرير السابق، باتت لجنة التفتيش الضريبي تتردد على المطبعة، وتكررت عمليات الدههم والتفتيش من الشرطة. حتى إنهم باتوا يتنصتون على هاتفي".

 اقرأ أيضاً: "ستاتيكو سوتشي"... إدارة الاختلاف

وكان نيمتسوف قد وضع أسس التقرير قبل اغتياله، قبل أن يكمله رفاقه إيليا ياشين وسيرغي أليكساشينكو وألفريد كوخ وغيرهم. ويتضمن التقرير شهادات عن مشاركة جنود روس في القتال في أوكرانيا، وشهادات أهالي القتلى منهم هناك. ويقول المدافعون عن الكرملين في هذا الصدد، إن "من ذهب إلى القتال هناك، ذهب متطوعاً وبصفة شخصية، ولم يكن ينفّذ أي مهمة رسمية"، ليُسقطوا بذلك المسؤولية عن وزارة الدفاع الروسية وعن قيادة البلاد السياسية.

ومن الواضح تعذّر إمكانية حصول معدّي التقرير على تصريحات أو أدلة، تؤكد إعطاء الأوامر بهذا الشأن، في ظلّ الخوف حتى من نشر تقرير يتهم سلطات موسكو بـ"الضمّ التعسفي المبيت للقرم، والمشاركة في دعم انفصاليي دونباس بالمقاتلين والعتاد والمال".

وتحسباً لاتهام السلطة لمعدي التقرير بأنه موجّه للخارج، لاستخدامه أداة لممارسة مزيد من الضغوط الغربية على روسيا، أشار ميخائيل كاسيانوف، رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس "بارناس" المعارض، إلى أن "التقرير لا يتضمن اكتشافات مفاجئة، ولكنه يساعد الناس على فهم ما يحدث".

ويحاول التقرير فضح كيف أمّنت وحدات من الجيش الروسي، الدعم للانفصاليين في الشرق الأوكراني، وكيف عُرض على الجنود تسريحهم شكلياً من الخدمة كي يصبحوا "متطوعين". وتولّت في الوقت نفسه، منظمات اجتماعية غير رسمية، مؤيدة للكرملين إرسالهم إلى دونباس. كما يتناول التقرير كيفية قيام المنظمات بتمويل متطوعين من عسكريين سابقين وعناصر أمنيين من جمهورية الشيشان، وإعطائهم رواتب تعادل ضعفي ما يتقاضاه العسكري الروسي النظامي للقتال ضد كييف.

عسكرياً، يشير التقرير إلى استخدام الانفصاليين لراجمات "تورنادو إس" الصاروخية، التي تنتجها روسيا، و"لم تُصدَّر إطلاقاً إلى الخارج"، كما قال إيليا ياشين، عضو المكتب السياسي لـ"بارناس" أثناء تقديم التقرير.
كما أكد سيرغي أليكساشينكو، النائب السابق لرئيس إدارة المصرف المركزي الروسي، ومدير معهد بحوث الاقتصاد الكلّي لدى مدرسة الاقتصاد العليا بموسكو، والمشارك في إعداد التقرير، أنه جرى تخصيص حوالي تسعة ملايين دولار، على مدى عشرة أشهر من الحرب لإنفاقها على "المتطوعين".

وختم معدّو التقرير عرضهم، بالإشارة إلى أن "الثورة في كييف وهروب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من البلاد خلقت ظروفاً مثالية لقيام الكرملين بإجراءات حاسمة بشأن انفصال القرم". إلا أنهم أكدوا في الوقت نفسه، على لسان إيليا ياشين، أن "الرئيس بوتين لم يخطط إطلاقاً لضم دونباس إلى روسيا، بل استغلال الإقليم كورقة ضغط على كييف والغرب، للاعتراف بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا ورفع العقوبات عن الأخيرة".

اقرأ أيضاً: مواجهة جديدة بين بوتين والمعارضة الروسية
المساهمون