رجلان. عالَمان. مُعجمان. مزاجان. منظومتان قيميتان تصطدم إحداهما بالأخرى في مكان ضيّق، وفي لحظة انتقالية في تاريخ الولايات المتحدّة الأميركية، وهذا كلّه في "كتاب أخضر" (2019) للأميركي بيتر فاريلّي. صدام بين التراجيديا الاجتماعية والكوميديا، في رحلة محدودة في الزمان والمكان، من نيويورك الليبرالية إلى الجنوب الأميركي العنصري، قبل عام واحد على خطاب مارتن لوثر كينغ "لديّ حلم" (28 أغسطس/ آب 1963). رحلة بعَقد عمل مؤقّت عشية عيد الميلاد. رحلة نادرة، تجمع توني فالّيلونغا (فيغو مورتنسن)، سائق مافيوزي عنصري أميركي من أصل إيطالي، بدون شيرلي (ماهرشالا علي) عازف بيانو أسود مشهور، يبحث عن الاعتراف والتقدير في موطن العبودية الأميركية.
الرحلة ذات تفاصيل صغيرة، مُطرّزة ومقسّمة على 130 دقيقة (مدة الفيلم)، رسم بيتر فاريلّي خلالها بطليه هذين بدقّة، على مستويي المظهر والمزاج. بطلان اثنان ينخرطان في حوار كثيف وموجز ومزلزل وكشّاف، جُمله عميقة وساخرة وقصيرة، كالصُوَر الكثيفة. بطلان متساويان، لأن السيناريو (فاريلّي ونِكْ فالّيلونغا وبراين هايز كورّي) غير منحاز لأي واحد منهما. والحوار متوتر بين شخصين غير متفّق أحدهما مع الآخر على أي شيء. يقول بيتر بروك: "على الكاتب أن يعطي كلا منهما الدرجة نفسها من القابلية لتُصدَّق، وإلا ضَعُف عمله" (النقطة المتحوّلة). والكاميرا عكست الموقف الحيادي للحوار، متّخذة المسافة نفسها منهما طوال الوقت. هذا تكرار صنع إيقاعًا بصريًا يجعل المتفرّج يجد صعوبة ليقرّر مع من سيتعاطف.
الشخصيتان متناقضتان: فنانٌ متحرّر من الكدح، مع إيطالي يجد صعوبة في إطعام عائلته. إيطالي يحبّ الطعام إلى درجة يستحق معها لقب ناقد فني للطبخ، من دون أنْ يعمّم في أحكامه، بل يميّز بدقة بين درجات الحلو والمالح، وبين المطبوخ والمقلي. ناقد لا يتحدث إلا والعيّنة المطهوة التي يحلّلها بين يديه الملطّختين بالإدام، يأكلها ويشرح طعمها ومزايا لذتها لمرافقِه. وبناء على النقد الإيجابي، ينصح مرافقه بتناول الوجبة. هذه كلّها معلومات عن شخصية السائق، التي يفترض بها أن تؤدّي الدور الثاني في الفيلم. هذا بورتريه له، وتلك سماته الفردية. لكنه يحمل وجهة نظر جَمَعية، فهو نيويوركي يكتشف الجنوب "الحقير" بالنسبة إليه. للفيلم عمق سوسيولوجي، يكشف النزعة المناطقية الأميركية، وفاريلّي يُقارن بين نيويورك المفتوحة على ليبرالية أوروبا، ورجعيّة العمق الأميركي.
يخدم الإيطالي، ذو الهوية الهجينة، عازفًا أسود يرفض وضع كأس ويسكي على البيانو المقدّس. فناناً يملك امتيازًا اقتصاديًا واجتماعيًا في نيويورك. أسود قادم من الشمال الشرقي لأميركا، وسلوكه الواثق تجسيد لقول الرئيس أبراهام لينكولن: "انهضوا أيها العبيد، فإنكم لا ترونهم كبارًا إلا لأنكم ساجدون".
في "كتاب أخضر"، موسيقى تصويرية تنبع من اللقطة ولا تأتي من خارجها، موسيقى هي رمز للثورة الفنية على الذوق الكلاسيكي. والسرد يتميّز بنبرة تحرّرية، تسري من الشخصيات إلى المتفرّجين. يأمر العازف سائقه، قائلاً له: "(أبقِ) عينيك على الطريق، ويديك على المقود". مع الوقت، يكتشف الإيطالي أن المعرفة أهمّ من لون بشرة العازف.
يتماهى المتفرّج سريعًا مع الفنان وسائقه ـ خصمه. في إحدى اللقطات، يُهان الفنان في هويته، فتظهر السيارة بعيدة وهي تعْبرُ الظلام وتتقدّم بصعوبة. لقطة ـ استعارة بصرية للحوار السابق عليها. ثم إنّ معظم الأحداث تجري على الطريق التي تتبع جغرافيا الجنوب الأميركي المرهَق بثقل ماضي العبودية. هناك، حيث تجري أحداث رواية "ذهب مع الريح" (1936) لمارغريت ميتشل، المقتبسة سينمائيًا عام 1939 بالعنوان نفسه، للمخرج فيكتور فليمنغ.
مرورا في ولايات الجنوب، أنديانا وجورجيا وميسيسيبي وآلاباما، تتكشّف خلفية البطل، وينكشف عمق المرحلة التاريخية. حين يعرف المتفرّج خلفيتي الشخصيتين، يُصبح التوتر مفهومًا، ما يؤدّي إلى تغيّر الشخصيتين في نهاية الرحلة، وهي نهاية سعيدة.
نادرًا ما يبقى السود أحياء في نهايات أفلام هوليوود. تغيّر هذا منذ وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدّة الأميركية (2009 ـ 2017)، كما في "دجانغو غير المُقيَّد" (2012) لكوانتن تارانتينو. حتى إن دجانغو نفسه (جيمي فوكس) كان راعي بقر مسلّحًا، يُسدّد طلقات بندقيته جيدًا، وهذا حكم على البيض في هوليوود.
بتأويله في سياقه، يتقاطع "كتاب أخضر" مع سِيَر كثيرة. فهو يقدّم سيرة موسيقيّ أميركي كئيب، سافر إلى الاتحاد السوفييتي (السابق)، لدراسة البيانو في سانت بيترسبورغ، مدينة تشايكوفسكي، ثم قرّر العزف في جنوب الولايات المتحدة. يُذكِّر هذا بسيرة كوندوليزا رايس، التي درست البيانو، وتعلّمت الروسية، وصارت خبيرة في شؤون بلد تشايكوفسكي. ورايس عاشت طفولتها في بيئة عنصرية في ولاية ألاباما، حيث كانت توجد مراحيض ومدارس وحافلات خاصة بالسود، في حيّز اجتماعي يعتبر السود متخلّفين وراثيًا. بحسب سيرتها، وقفت رايس للمرّة الأولى أمام البيت الأبيض عام 1964، حين لم يكن مسموحًا للسود بدخوله. أجدادها في ألاباما "عبيد منازل" لا "عبيد حقول"، لذلك تعلّموا القراءة والكتابة، وعلّموا أطفالهم، ما أدّى إلى تغيّر مصيرها ("كوندي: قصّة نجاح كوندوليزا رايس"، أنطونيا فيليكس، الترجمة العربية، "الدار العربية للعلوم ـ ناشرون"، 2007).
توجد تقاطعات بين سيرتي كوندوليزا رايس ودون شيرلي عازف البيانو في "كتاب أخضر". قرّر السود، في أميركا ستينيات القرن العشرين، تحقيق مصيرهم بأيديهم. كان لذلك أثر كبير في الموسيقى والرياضة تحديدًا. تلك التقاطعات تُجذِّر الفيلم في سياقه، وتزيد تأثيره. والفيلم يُمكن تصنيفه ضمن "سينما المؤلّف"، من دون أن يعني هذا فشلاً تجاريًا له، إذ حقّقت إبراداته الدولية 108 ملايين و618 ألفًا و692 دولارا أميركيا، بين 16 نوفبمر/ تشرين الثاني 2018 و13 فبراير/ شباط 2019، بينها 62 مليونًا و103 آلاف دولار أميركي في السوق الأميركية، مقابل ميزانية إنتاج تساوي 23 مليون دولار أميركي فقط.