ابتسامة الصنوبر والبنّ

19 مارس 2015
العيون تنظر إلينا (Getty)
+ الخط -
حان موعد العودة إلى بيروت. ألمّ ثيابي المنشورة في الخارج، وأشمّها بضع مرّات قبل وضعها في الحقيبة. رائحة الثياب في المنزل مختلفة. تعبق برائحة شجيرات الصنوبر القريبة ورائحة البنّ التي تنبعث من الشقق الست. أجهّز نفسي للمحطة الأولى، ساحة شتورة. سأقضي هناك بضع دقائق قبل أن يسير الفان باتجاه بيروت.

أبتسمُ كثيراً قبل المغادرة. أفرّغ فمي من كل الابتسامات. أبتسم الابتسامة الأخيرة لأمّي. أصل إلى ساحة شتورة. أخلع ابتسامتي، أطويها، وأخبئها بين الثياب. أحرص على أن لا تضيع، فأضعها في جيب سترة سوداء. لن تضيع الابتسامة في اللون الأسود، سأجدها أسرع.

ألبس وجهاً آخر بارداً، لا يبتسم، لا يعبس، لا ينفعل. لا يمكن الصمود في هذه الساحة بوجه غير هذا. أبتسم في سرّي لقدرتي على تبديل الوجوه. "يجب أن يتعلم الجميع هذا في المدارس أيضاً"، أقولُ، ثم أصحح لنفسي. "يجب أن تتعلم النساء تحديداً كيف يخلعن وجوههن، ويبدّلنها حسب الأمكنة".

العيون تنظر إلينا، نحن النساء، تراقبنا، تعرّينا، تتهمنا، تستجوبنا، وتصدر الأحكام. أسأل نفسي "هل هذه ساحة لتعذيب النساء؟". تحاول إحداهن البحث عن رفيقة لها وسط جحيم العيون. لا تراني، وتلجأ إلى الوقوف جانب متسولة لا تغادر الساحة. العيون لا تلاحق المتسولة. تستثنيها. المتسولة نفسها تلاحقنا بعينيها. هي واحدة منهم إذن.

هي أيضاً توجه التهم إلينا. تعتبر أنها تمارس عملها، التسول. أمّا نحن فلا مبرر لوجودنا. تنضم إلى مجموعة شباب يضايقون الفتاة. تبتسم، وتقول "خرجك، بتستاهلي". فعلاً، عدو المرأة الأول هو المرأة نفسها. أتأمل الفتاة. لا تنفعل، لا تعبس، ولا تصرخ في وجوههم. أخمن أنّها مثلي. خبأت ابتسامتها، وارتدت وجهاً آخر لتحمّل هذه الدقائق.

أصلُ إلى بيروت، وأنسى الساحة. الساحة محطة بين جنتين، بيروت والبيت. قبل أن أعلّق ثيابي المطوية، أفتش عن ابتسامتي، وأرتديها مجدداً. أنتبه أنّ هذه الابتسامة مختلفة، تشبه رائحة السترة السوداء التي اختبأتْ فيها. هذه ابتسامة بطعم الصنوبر والبنّ.
المساهمون