اجتياح رفح والتهيئة لمسلخ بشري

24 مايو 2024
+ الخط -

في مسارات الحرب الدائرة في قطاع غزّة، احتفظت مدينة رفح بخصوصيّتها، آخرَ مدينة آمنة، نسبياً، للفلسطينيين، فأوجد لها ذلك وضعاً خاصاً يتأتّى في حرص الفاعلين الدوليين والإقليميين على تجنيبها عنفاً شاملاً، إلى جانب أنّ موقعها الجغرافي المتاخم لمصر فرضها في معادلة احتواء تمدّد حرب غزّة إقليمياً. إلا أنّ توغّل الجيش الإسرائيلي في شرق مدينة رفح يشكّل تحدّياً لما تبقّى من الإجماع الدولي، بما في ذلك رغبة حليف إسرائيل الأميركي في تأمين مدينة رفح، وهو ما يفرض مُعضلةً أخلاقيةً، لا في كيفية إنقاذ الفلسطينيين من إبادةٍ محقّقةٍ فقط، بل في مدى قدرة الحلفاء على كبح جماح إسرائيل وإجرامها.

 الإيديولوجيا العنصرية لكيان استيطاني، كالنظام الإسرائيلي، تبرّر غايتها في القتل والإبادة، ولا ترى في التوغّل في مدينة رفح، وقتل مزيد من الفلسطينيين عائقاً لتحقيق أهدافها، إذ تصبح الإبادة والتهجير، بالنسبة لإسرائيل، استراتيجيةً مشروعةً لتحقيق الأهداف، من شنّ حربٍ في قطاع غزّة، إلى التوغّل، أخيراً، في مدينة رفح، بهدف اجتثاث حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفرض وضعٍ جديدٍ في قطاع غزّة، عسكرياً وسياسياً وأمنياً وإنسانياً، لصالح إسرائيل، فتصبح طرفاً رئيسياً في إدارة القطاع، سواء الآن أو في مرحلة ما بعد الحرب في غزّة، إلى جانب امتلاك أوراقٍ جديدةٍ للضغط على حركة حماس في مفاوضات تبادل الرهائن. التوغّل البرّي في شرق مدينة رفح، واستهداف الأحياء والمُخيّمات في شرق المدينة، من الجيش الإسرائيلي، بموازاة إعادة التموضع العسكري في شمال غزّة، يعني فرض سيطرة إسرائيل على كامل القطاع، وبالتالي نزع سلطة "حماس" بالقوّة، كما أنّ احتلال معبر رفح المحاذي لمصر وإخضاعه للسيادة الإسرائيلية، يعني فرض إسرائيل سلطةً سياديةً على المعبر، وهو آخر معبر برّي في قطاع غزّة، ظلّ خارج سلطتها سنوات، ومن ثمّ فرضِ معادلةٍ جديدة أمنية ورقابية وإنسانية على حركة المعبر، وإعاقة التدفّقات الإنسانية من الجانب المصري إلى غزّة، مما يعني فرض حصار شامل على الفلسطينيين في القطاع. كما أنّ استمرار العملية العسكرية في شرق مدينة رفح، واستهداف التجمعات السكّانية، والمرافق الصحّية، والمساجد، إلى جانب استئناف قصف مدن شمال قطاع غزّة، تعني مضاعفة الخسائر المادّية في صفوف الفلسطينيين، وورقة ضغط أخرى على حركة حماس لإنجاز صفقة تبادل الرهائن. ومن جهة أخرى، توظيف العملية العسكرية في مدينة رفح لضبط علاقة إسرائيل بحليفها الأميركي، بتأكيد قدرتها العسكرية على المضيّ مُنفردةً لتأمين وجودها، خاصّة بعد تهديد أميركا بوقف إمدادها بالأسلحة.

إسرائيل هي من يخسر الوقت مع حالة الانقسام المجتمعي حيال نتائج عمليتها في رفح، وقدرتها على إعادة الرهائن

تبنّي الكيان الإسرائيلي استراتيجية متناقضة تعتمد الخيار العسكري في مدينة رفح، لفرض شروطه على حركة حماس، إلى جانب استهدافها عسكرياً، وفي الوقت نفسه التفاوض معها، يكشف حجم المأزق الذي تواجهه دولة الكيان الصهيوني، ناهيك عن العواقب الوخيمة لهذه الاستراتيجية، سواء في مستوى أمن إسرائيل، بما في ذلك مخاطر توسّع الحرب في الإقليم، وبعيداً عن الهوّة الواسعة في المطالب التفاوضية ما بين إسرائيل، التي تحصر إنجاح التفاوض في الإفراج عن الرهائن، في مقابل تمسّك "حماس" بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، فإنّ تعويل إسرائيل على الخيار العسكري في رفح لن يحقّق غاياته، إذ يقوّض منطق القوّة والإرهاب فرصها في إطلاق سراح الرهائن، كما أنّ فرض وضعٍ عسكريٍ جديدٍ في رفح، وفي غزّة، يعني إصرار إسرائيل على عدم وقف الحرب في القطاع، خلافاً لمشاريع التهدئة التي يسوّقها حلفاؤها وأشياعهم في المنطقة. وسواء نجحت المفاوضات أو فشلت، فإنّه لا ضمانات لانسحاب إسرائيل من غزّة، بما في ذلك رفح، وذلك رهن بأجندتها. ومن جهة ثانية، وإن امتلكت إسرائيل أوراقاً للضغط على "حماس"، فإنّ الأخيرة تمتلك أوراقاً فاعلةً لتثبيت موقفها التفاوضي، وأيضاً السياسي في غزّة، من كونها قوّة مقاومة تدافع عن جودها، وفي أرضها، ضدّ كيان مُحتلّ، إلى قدرة حلفائها في المنطقة على إسنادها عسكرياً وسياسياً أيضاً، بدءاً بإيران ووكلائها في لبنان وسورية والعراق واليمن، ما يعني تنشيط جبهات عسكرية ضدّ إسرائيل في حال استمرّت في عملياتها العسكرية في مدينة رفح.

من جهة ثالثة، إسرائيل هي من يخسر الوقت مع حالة الانقسام المجتمعي حيال نتائج عمليتها في رفح، وقدرتها على إعادة الرهائن. ومن جهة رابعة، يقوّض فرض وضع عسكري في معبر رفح الحدودي مع مصر (محور فيلادلفيا)، معاهدات السلام، بما في ذلك الاتفاقات الأمنية والسياسية مع الجانب المصري، وهو، من ثمّ، يُحدِث عوامل إضافية، لتصعيد الصراع في الإقليم. ومن جهة خامسة، يعني استمرار عمليتها العسكرية في مدينة رفح تحدّي إسرائيل لما تبقّى من الشرعية الدولية، وإضافة سجلّ جديد لجرائمَ الإبادة، التي ارتكبتها في قطاع غزّة، ومن ثمّ وضع قادة الحكومة الإسرائيلية تحت طائلة الملاحقة القضائية، إذ لا تسقط الجرائم بالتقادم. ومن جهة سادسة، ومع محاولة إسرائيل تحييد حليفها الأميركي في عمليتها العسكرية في رفح، فإنّها تقلّص من خياراته في حمايتها، بما في ذلك تجنيبها عزلةً إقليميةً.

توظف إسرائيل العملية العسكرية في مدينة رفح لضبط علاقتها بحليفها الأميركي، بتأكيد قدرتها العسكرية على المضي مُنفردةً لتأمين وجودها

في المقابل، وبعيداً عن تطوّرات التوغّل الإسرائيلي في رفح، في عملية عسكرية محدودة أو شاملة، وبعيداً، أيضاً، عن المسار التفاوضي بين إسرائيل و"حماس"، المُهمّ، هنا، تقصّي انكشاف حلفاء إسرائيل، وعجزهم عن ممارسة أي شكل من أشكال الضغط على إسرائيل لوقف جرائهما في رفح، ربما يمثل الموقف الأميركي مثالاً حيوياً على ذلك، والذي يتجلّى، ليس في ارتباك موقفها الرسمي في التعاطي مع أبعاد العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح فقط، بل عدم قدرتها على الضغط على حليفها. فرغم أنّ أميركا لم تعارض اقتحام رفح عملياً، فوضعت شرط تقديم إسرائيل خطة لتأمين المدنيين، وهو ما يبدو تحايلاً على الواقع لا أكثر، في مدينة مُكتظّة بأكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، ناهيك عن حالة الدمار في مجمل القطاع، بمعنى لا يمكن إجلاء المدنيين، أو تجنيبهم القتل، إلا في حالة وقف الحرب في غزّة، فإنّ الخلاف بين الحليفيْن كان على الأدوات في إدارة عملية رفح ونطاقاتها وتوقيتها، وليس بالطبع على الأهداف النهائية من اجتثاث حركة حماس، إلى فرض وضع خاص في غزّة، إذ تعوّل الدبلوماسية الأميركية على تبنّي أدواتٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ متزامنةٍ تحقّق هذه الغاية، من تنفيذ عملياتٍ نوعيةٍ في رفح تستهدف القيادات الميدانية لـ "حماس"، إلى اللجوء إلى الدبلوماسية السياسية لانتزاع قطاع غزّة من سلطة "حماس"، إذ تتمكّن إسرائيل من السيطرة والإشراف على غزّة، سواء تحت حكم السلطة الفلسطينية أو قوّة حماية مشتركة، إلى جانب تقويض معسكر المقاومة الإسلامية في المنطقة، من إيران إلى وكلائها، مقابل تقوية إسرائيل عسكرياً، وتأمينها من التهديدات، وذلك بتطبيع علاقتها مع محيطها العربي، وتحديداً تطبيع علاقة إسرائيل مع المملكة العربية السعودية. فبموازاة دعم المفاوضات غير المباشرة بين "حماس" وإسرائيل لإنجاز صفقة تبادل الرهائن، سعت الدبلوماسية الأميركية إلى تحريك مسار تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، من خلال تعهدات بإتمام صفقات بيع أسلحة عسكرية دفاعية للسعودية، ودعم طموحها النووي، مقابل ربط الامتيازات الأميركية بقطع السعودية مرحلة أولى من التطبيع مع إسرائيل. يضاف إلى ذلك، أنّها دفعت حلفاءها من الدول العربية إلى تخريج رؤية مشتركة لمستقبل فلسطين، وهو ما عرف بمشروع السداسية العربية، الذي يلبّي الأهداف الإسرائيلية والأميركية، وأهمها تجريد "حماس" من السلطة على قطاع غزة، وإسنادها إلى السلطة الفلسطينية، ومن ثمّ دفع التفاوض بين السلطة وإسرائيل بما يؤدي مستقبلاً إلى حلّ الدولتين، إضافة إلى تولي الدول النفطية عملية إعادة إعمار غزّة، وإعفاء إسرائيل من أي مسؤولية، ومن ثمّ فإن التوغل الإسرائيلي الجزئي، حتّى الآن، لمدينة رفح، عرقل الدبلوماسية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، إلى حد ما، إلا أنّها حرصت على تطويق تداعياتها الإقليمية مقابل التقليل من أهميتها، وكذلك تحقيق الأهداف الإسرائيلية، من توصيف التوغّل العسكري في رفح باعتباره عملية محدودة، إلى شرعنة سيطرة الجيش الإسرائيلي على معبر رفح، والأكثر أهمّية، استمرار الموقف الرسمي الأميركي حيال الحرب في غزّة، وذلك بمقايضة وقف إطلاق النار بإفراج "حماس" عن الرهائن، وبالطبع من دون ضمانات.

تلويح أميركا بوقف شحنة القذائف المدفعية لإسرائيل بعد عملية رفح، التي لم تكن سوى شحنة واحدة من شحنات أسلحة عديدة وصلت وستصل إلى إسرائيل، لا تعني قدرة أميركا على الضغط على حليفها، ناهيك عن التخلّي عن حمايته. في المعطى الدولي، وبالطبع العربي، فإن ردود الأفعال الرسمية حيال التوغّل الإسرائيلي في مدينة رفح، ستقتصر كالعادة على الإدانة، وبالتالي التضحية بالفلسطينيين وتركهم لمصيرهم، وإذا كانت الكلفة المروّعة لحرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، وطيلة سبعة أشهر، قتل فيها أكثر من 35 ألف فلسطيني، ناهيك عن التهجير وفرض حصار غير إنساني، فإنّ استهداف مدينة رفح، التي يقطنها أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، يعني التهيئة لفصل جديد من فصول الإبادة الجماعية، إذ لا يمكن قياس أبعاد الكارثة، ولا حتّى مقاربتها أو تخيّلها، وذلك بجعل الفلسطينيين المحاصرين في مدينة رفح، والهاربين من مدنهم، أهدافاً مباشرةً للقتل ومن دون أي وسائل ممكنة للحماية، ناهيك عن تعطيل فرص الحياة من الإمدادات الإنسانية أو إسعاف المرضى والجرحى، بعد إغلاق إسرائيل كلّ المعابر في قطاع غزة، وتسييج مسلخ بشري يديره الكيان الإسرائيلي، ويراقبه العالم في صمت.