انتفاضة إيران... سلطوية شاخت وحواجز تُهدم

14 أكتوبر 2022
+ الخط -

تحمل قصة مرض المرشد الإيراني، علي خامنئى، رمزيةً تتعلق بأفول نموذج الجمهورية المصدّرة للثورة، إلى الدولة التى يثور عليها قطاعات شعبية، ما يزيد على 80 مدينة تتظاهر، والمحتجّون يواجهون مختلف أجهزة القمع ببسالة. ليست الحادثة الطارئة، مقتل العشرينية مهسا أميني، سوى شرارة، توقظ فعل الاحتجاج، وتعلن البحث عن حلولٍ لأزمات متشابكة، حيث صراع سياسي على السلطة وأزمة اقتصادية، وصورة الشابة المغدورة بسبب خصلة شعر توضح المسافة بين أجيال جديدة تتطلع إلى التغيير والحرية وعقليات سلطوية قديمة، وتشيع انتفاضة على نمط سلطوي وديني منغلق في عالم منفتح. التضاد فى الأفكار والصفوف يصنع حراكاً شعبياً، انتفاضة حقيقية، لها أسبابها المتشابكة، وسماتها من مشاركة جماهيرية وتعدّد أماكن الاحتجاج وفئات المحتجين، ووحدة جمهور خلف شعارات مناهضة للنظام تطالب بالتغيير، هي، كما كل الانتفاضات، تقودها بشجاعة ومشاركة كثيفة، النساء والشباب، لكنها لا تقتصر على الفئتين. ليست مؤامرة، على كل حال، كما يصوّرها النظام والمتشيعون له، وإن كانت اليوم محدودة فى المشاركة العددية، بينما أفق تطورها وتكرارها ممكن، إذا انطفأت هذه الموجة، حتى محدودية المشاركة لا تلغي سمتها الشعبية، وثمة تراكمات سنوات الاحتجاج الماضية لفئات عدة، من نساء وطلاب وعمال ومتقاعدين.

لا يريد بعضهم فى إيران وخارجها أن يرى ما تحت الرماد من غضب حين يتجسّد فعلاً، ويقلل من نتائجه إذا انطفأت جذوة الاحتجاج. بفعل الهوى أحياناً، يرى بعضهم إيران قوية تصدّر الثورة، تدافع عن المضطهدين، كما يتضمّن دستورها وعقول المتشيعين لها هذا الاتجاه، بجانب أنه مرتكز على التصوّر الشكلي، مغرق فى التاريخ والماضوية بجانب ارتباطه بمصالح أو مولع بالمسميات، وإن كان جهاز القمع "الباسيج" يسمّى إيرانيا قوات حماية المستضعفين، وهناك إعدامات تجري فى محاكم الثورة! يتّضح حقيقة أن الأسماء لا تغير مضامين الفعل.

مع كل انتفاضة، تتعزّز قاعدة أن الإصلاحات باتت ضرورة، خصوصاً مع تغيرات جيلية وتكنولوجية ومعرفية

ليست صورة الجمهورية الإيرانية في 1979 صورتها اليوم. لذا يتطلّب المشهد رؤية شريط التغيرات والمراحل والممارسات، لا الوقوف عند حدود التمنّي، أو صورة فوتوغرافية تدعم تصوّراته وتطلعاته، ويتجاهل ما طرأ في المشهد من تغيرات يتناولها أحياناً رموز من إصلاحيين أو حتى بعض رجال النظام، وهم يشخّصون الموقف، أزمة اقتصادية وسياسية، وفجوات بين أجيال من الشباب والسلطة، يقول وزير السياحة عزت الله ضرغامي: "إذا رأينا صوراً غير مألوفة في أثناء احتجاجات المدارس، فذلك لأننا لا نملك الغذاء الفكري اللازم للطلاب". الحقيقة أن التغذية الأيديولوجية للنظام لم تعد مؤثّرة، وزمن نظريات الحقن الإعلامي والحشد الأيديولوجي لم يعد فعالاً لعلاج أمراض وأزمات السلطوية، ويتعثر مع وجود أفعال تناقض الشعارات. لا يؤمن شعبٌ بسلطةٍ تتحدّث عن مضطهدين، وهو يميز بين فئاتٍ شعبيةٍ تنقصها خدمات وتعاني قسوة العيش، وإجراءات تقشف مع إهدار النظام المرهق والمحاصر، موازنة الدولة فى الإنفاق العسكري، ولا تصدق شعارات مقاومة الاستكبار، مع أجهزة تمارس العدوان على مواطنيها.

تبدو خطابات دولة الفقيه، بما فيها من ثلاثية الترهيب والتخوين والكذب، متشابهةً مع خطابات ديكتاتوريات عربية سابقة وحاضر، من قبيل أن المتظاهرين مخرّبون وإرهابيون، يجب مواجهتهم بحزم، يعتدون على أمن الوطن وسلامة أراضيه، وهم في الداخل مرتزقة يحرقون وينهبون، في تهديد الأمن العام واستقرار المجتمع، وغيرها من اتهامات. يجاهد النظام ضد الشعب بالقمع. وخارجياً بالعمل العسكري، شنّ هجوماً بالمدفعية والطائرات المسيّرة على الأكراد في الشمال الغربي، وفي مناطق الحدود، وإقليم كردستان، نهاية سبتمبر، والهجوم الأخير، ضمن غاراتٍ تكرّرت على الأراضي العراقية، واستدعت غضب المتظاهرين الذين رفعوا شعاراتٍ حادّة خلال ذكرى انتفاضة تشرين، غير أن سلوك إيران خارج حدودها يعيد تخوفات دول الإقليم مرة أخرى، ويربك ما بدا أنه محاولة لتطبيع العلاقات برعاية بغداد، التي استضافت خمسة اجتماعات جمعت طهران والرياض.

بالنسبة إلى السلطة، مشهد الاحتجاج مبالغ فيه، أو أنه انتهى، كما نشرت صحف إيرانية، ويمثل حرباً نفسية إعلاميةً تتذرّع بوفاة مواطنة (كمْ مواطنة قتلت؟) تعمّم وسائل إعلام إيرانية تديرها دوائر المخابرات هذا الخطاب، وتطالب بعضها توزيع الأوسمة على الشرطة والحرس الثوري الذي يقدّم التضحيات، لمَ لا والمشهد كله مؤامرة جديدة، مصيرها الفشل؟ كمْ مرّة سمعنا هذا من رؤساء عرب خلال انتفاضات وقعت؟

تتجاور مع العنف المكثف لأجهزة القمع أكاذيب إعلامية، وعنف اللغة

وعن المعتقلين، لا نمتلك حقائق عن أعدادهم، ورصد المنظمات الحقوقية، محلية ودولية متباين، كما بلدان حكمت وتحكم بنمط سلطوي، سواء كان ذا ملمح عسكري أو ديني. وفي إيران، يجتمع الجانبان. يمكن الاستدلال من صور وتسجيلات تظهر تجمعات ذوي المعتقلين عن حجم الموقوفين، كما مشهد أهالي أقرانهم في سورية على جسر الشغور مثال على حجم المعاناة والجرائم، مشهد دالّ على مأساة السجناء والمختفين، ولوعة الأهالي الباحثين عن أبنائهم وبناتهم، ومعظمهم من الشباب، وبينهم أطفال كما تفيد تقارير عدة. تتشابه المشاهد عربياً، وتتوزّع بحجم خريطة الثورات المغدورة، وخطابات النظامين المتحالفين متشابهة، وإقدام الأسد على تدمير حماة، بدعوى حماية الثورة يمكن مقاربتها مع مذبحة عام 1988 في إيران، وإن اختلفت توجهات من قتلوا، لكن القمع واحد، ولم يكن الهدف وحسب مواجهة "مجاهدي خلق" في إيران أو الإخوان المسلمين في سورية، وإنما وقف أي حراك معارض. وفي الحادثتين، قُتل مدنيون وأصوات ديمقراطية وسُحقت المعارضة ودخلت السجون لسنوات طويلة، هذا عن واقعتين خلال الثمانينيات نقلها الشهود وكتب المذكرات وتقارير صحافية. أما الحقائق اليوم، فتدوَّن لحظياً، لذلك مساحات الخلط والمزاعم أقل.

لم يكن ممكناً تسجيل حملة استهداف النظام الإيراني معارضيه من يساريين وأصوات ديمقراطية كما تسجل اليوم كاميرات المتظاهرين، أو تسريبات من داخل النظام نفسه. إبراهيم رئيسي، الذي تحدث مع أسرة الشابة ذات خصلة الشعر التي أثارت غضب "شرطة الأخلاق" فثار أقرانها، قال إنه شعر بفقد أحد أبنائه، بينما كتابات موثقة عن مذبحة 1988 تشير إلى تورّط رئيسي فيها. وقد تكرّرت المطالبات بالتحقيق في الجريمة، بينها منظمة العفو الدولية (تقدر الضحايا بخمسة آلاف)، كما أشارت إلى محاولة النظام طمس الجريمة، عبر بناء أسوار حول المقابر الجماعية، بالعقلية ذاتها. وتقول السلطة إن مهسا ماتت نتاج اعتلال صحتها، بينما يقول والدها إنها لم تكن قَطّ ميتة، بل قتلت.

تدعو السلطة نخب إيران إلى إرجاع الشباب من الشوارع والميادين، وهي ذاتها السلطة التي تهدّد أفراداً من النخب، إذا ما كتبت أو عبّرت عن تضامنها مع المحتجين، بجانب الأخبار التي تنشر، يُمارس تهديد ضد مشاهير من فنانين وأساتذة أكاديميين وكتّاب حتى يصمتوا، هي ذاتها التوجهات التي تتبعها نظم سلطوية في قمعٍ يبدو كامناً، لكنه مفضوح.

ما جرى في المجتمع الإيراني من تغيرات قاسية غيّر جدار السلطة الذي يضعف، وأوضح أن دولة الفقيه لم تعد صالحة لهذا الزمان

تتجاور مع العنف المكثف لأجهزة القمع أكاذيب إعلامية، وعنف اللغة. يتهم الجالس في مواقع اتخاذ القرار، الممسك أبواب السجن، من يخالفه بأنه إرهابي، ويلقبه بالعدو، والشرذمة المتعاونين مع السفارات الأجنبية، ووكلاء الاستعمار، المتآمرين على الوطن، وكأن تلك النظم التي توزّع الاتهامات وتحاسب الناس، تحرّرية وعادلة وتقدّمية. السلطوية، بوجهيها العلماني والديني، تقبع في أعلى مراتب المحافظة والتخلف، بما تحمله من مضامين مضادّة للديمقراطية، وما تمارسه من عنفٍ ظاهر، وكذبٍ لا يبيّض وجهها، وهي تحاول إلقاء التهم. وبينما يبثّ المتظاهرون مشاهد تظاهراتهم، يدّعي النظام عودة الاستقرار وانتهاء الفوضى، لا يدرك هو وغيره أن هناك نفساً مختلفاً، تضافر قوى الاحتجاج وتنوعها واتساع رقعتها وتعدّد مضامينها وإمكاناتها على الفعل وأيضاً التغيير، وأن غداً ليس كما الأمس، وحتى وإن اعتبر بعد الانتفاضة خطواته المقبلة إصلاحاً ذاتياً، فإن الفضل سيعود إلى الحناجر التي فارقت الخوف، حين جاء موعد انطلاقها. تراكمت الخبرات اليوم، والمحتجّون مع تنوع انتماءاتهم وطبقاتهم مجتمعون حول حلم خلق حياة وعالم مختلف وحرية.

ليس المشهد اليوم قاصراً على احتجاجات الشوارع، ولا تأتي الاحتجاجات مصادفة أيضاً، ولا أمراً مباشراً من الخارج أو مؤامرة كما يحبّ بعضهم النظر إليها، أو اعتبارها أيضاً ضمن يقين معرفي، يصوّرها كما الموجة الخضراء 2009، أو أنها مجرّد صراع أجنحة في السلطة، يتجاهل هذا المنظور أو الرؤية المستعجلة، اتساع الأزمات وتنوّعها، وما جرى في المجتمع من تغيرات قاسية غيّر جدار السلطة الذي يضعف أيضاً، وأوضح أن دولة الفقيه لم تعد صالحة لهذا الزمان، هناك أجيالٌ شابّة تقارن حالها بأحوال أقرانها في العالم.

وأخيراً، ومع كل انتفاضة، تتعزّز قاعدة أن الإصلاحات باتت ضرورة، خصوصاً مع تغيرات جيلية وتكنولوجية ومعرفية، تزامنت مع دروس ثورات الربيع العربي وانتفاضاته في موجتيهما، الأولى والثانية. وثانياً، إن كل انتفاضة هي حراك جماهيري يُحدث تأثيراته في أماكن أخرى، لكن نظام إيران المأزوم يتّسم بالصلف، ويعادي الإصلاحيين من داخله، يقيّد حركتهم ويضع بعضاً منهم قيد الإقامة الجبرية. ومع طول فترات القمع، تزيد التكلفة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".