حكايات عن أم كلثوم
هذا الحديث، بمناسبة ذكرى ميلاد سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، 31 ديسمبر/ كانون الأول 1898، وتوفيت في 3 فبراير/ شباط 1975، وحقّقت، خلال حياتها، مجداً لا تحقّقه إلا عبقرياتٌ قليلاتٌ من نساء أمة العرب، فكان لها تمثال في مدينة المنصورة، ومتحف في منطقة الروضة بالقاهرة، بالقرب من شاطئ النيل. في سيرة أم كلثوم حكايات ذات نكهة حريفة، منها واحدة بالغة الدلالة، تتعلق بالموسيقار رياض السنباطي، يعود تاريخها إلى أيام طفولتهما. رياض أصغر منها ببضع سنوات، مولود سنة 1906، وكان يرافق والده إلى الموالد، ويغنّي، ويلقبونه "بلبل المنصورة"، وهي ترتدي لباس ولد، وتضع على رأسها عقالاً، وترافق والدها إلى الموالد، وتغنّي، وتسحر الناس بغنائها، وذات يوم، كان رياض عائداً مع والده في وقتٍ متأخّر من الليل، بالقطار، وكانت هي عائدة مع والدها، في قطار آخر، والتقى الطرفان في إحدى المحطّات، ووقف أبوها وأبوه يتبادلان السلام، ووقف رياض ينظر إلى أم كلثوم بدهشة، فقد رآها عياناً، بعدما بلغه صيتُها وأخبارها... وبعد سنين طويلة، كانت أم كلثوم قد ملأت الدنيا وشغلت الناس في القاهرة، وكان رياض قد أصبح من الملحنين المشاهير، تعارفا، ولحّن لها، ثم أصبح من أفضل من لحّن لها، وأغزرهم، وقد قرأتُ، ذات يوم، معلومة، أنّ كلّ أغاني أم كلثوم بين عامي 1950 و1960 كانت من ألحانه، ومعلومة أخرى، أنّ السنباطي كان الوحيد بين الملحنين العرب الذي فاز، سنة 1977، بجائزة أحسن موسيقي في العالم التي يمنحها المجلس الدولي للموسيقى التابع لمنظمة اليونسكو، وبجدارة.
ومن العوامل التي صنعت مجد أم كلثوم، اهتمامُها الزائد بالشعر الذي تغنّيه، تقرأه مراراً، وتراجعه، وتقترح على مؤلفه، أو على الملحن، تغيير بعض كلماته، مثلما حصل حينما اجتمعت مع بليغ حمدي وعبد الوهاب محمّد، في أثناء التحضير لأغنية "ظلمنا الحب 1962" وتوقفت عند جملة "ضاع الحب ضاع، ما بين عِنْدِ قلبي وقلبك ضاع"، واقترحت أن تكون "ما بين عند قلبْ وقلبْ"، وسوّغت ذلك بأن الحبّ عندما يحكمه العناد لا يحتاج إلى تحديد المسؤول عن ضياعه. وكانت تلك ثاني تجربة لها مع بليغ الذي لحّن لها "حبّ إيه" قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره... وبعد زمن ليس بالطويل تعرّفت إلى الشاعر مرسي جميل عزيز الذي عُرف عنه، يومئذ، أنه كان السبب في اشتهار عدد لا بأس به من المطربين والمطربات، حتى أنه أعطى قصيدة "سوف أحيا" للأخوين الرحباني، وكتب لفايزة أحمد، وعبد العزيز محمود، وهو الذي أبدع رائعة محمد عبد الوهاب "من غير ليه". عاتبته أم كلثوم لأنه لم يسعَ للقائها، مثلما كان يفعل أمثالُه، فاستجاب لدعوتها، وكتب لها ثلاثاً من أجمل أغانيها، سيرة الحب، وفات المعاد، وألف ليلة وليلة... وكانت لها مع بليغ حكاية أخرى، أنه وضع مقدّمة طويلة جداً لأغنية ألف ليلة وليلة، وجاء عندها، ذات مرّة، واقترح عليها أن يختصر المقدّمة، فقالت له: "سيبها يا ابني"، وشرحت له أنها ترهب اللحظة الأولى من لقاء الجمهور، وتبقى ساقاها ترتجفان، وتتلاصقان، قبل أن تدخل في الجو، وعليه فإنّ طول المقدّمة يمنحها وقتاً للاستعداد للمواجهة.
وكانت أم كلثوم تعترض على بعض كوبليهات اللحن، بدليل أن تقديم قصيدة الأطلال للجمهور تأخّر كثيراً، لأنها طلبت تغيير أحد الكوبليهات، والسنباطي كان عنيداً، وواثقاً من شغله، فأصرّ عليه، حتى تراجعت عن موقفها. وأما حكايتها مع فريد الأطرش، وتهربها من التعاون معه، فيفسّرها الدكتور سعد الله آغا القلعة، بأن لأم كلثوم حسابات تتعلق بـ "الملحن/ المطرب"، وتخشى من مقارنة صوتها بصوته، فهي لم تغنّ من ألحان عبد الوهاب قبل اعتزاله الغناء، ولم تغنّ من ألحان فريد لأنّه كان في أوج عطائه الغنائي.
رحمهم الله جميعاً.