سرديّة الموت السوري في تحوّله الرخيص

17 اغسطس 2022

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

منذ 11 عاماً، عندما لم يتأخر الموت في التغوّل في حياة السوريين، والسوري كل يوم يكتب سردية مختلفة لحياته وموته. كان الرواد الأوائل محظوظين في موتهم، محظوظين بأشكال متنوّعة، أوّلها عدم انتظاره، مباغتته إياهم بجبروت عارم، ثم كلفة موته، فمن قضى برصاصة كان موته مكلفاً، ثمنه "رصاصة" كما كان يُشار إلى رخص حياة الكائن البشري في هذه المجتمعات، في استخفافٍ بليغ لقيمتها وضرورتها وحقّه فيها، نعم "ثمنه رصاصة".
لكنّ الرصاصة صارت مكلفة، وهذه أبسط قواعد الإنتاج والتسويق، المستثمر يسعى لإنتاج سلعته بأبسط التكاليف، كي يحقّق هامش ربح أكبر، وإذا كان الاستثمار في الموت، فإن أداة الموت يجب أن تكون أرخص، الرصاصة كانت تصيب فرداً، لا تستطيع أن تحصُد أكثر، بل قد يحتاج إلى أكثر من رصاصة ليتحقّق الموت، إمعاناً للقاتل في ترسيخ الموت، وهذا التفرّد في وسيلة الموت قد يمنح نوعاً من الفردية والتميّز لدى الضحية، فكيف لقاتلٍ حاقدٍ أن يمنح ضحيّته هذا الامتياز؟ عليها أن تكون رقماً ليس أكثر. لذلك، تطوّرت أساليب الموت وأدواته مع احتدام المعارك وجولات كسر العظم، صارت البراميل التي تهوي من السماء أكثر جدوى وأقلّ تكلفة، برميل لا يحتاج مزيداً من الكفاءات العلمية أو المهارات التكوينية كي يُنتج، يلقى من فوق، من حيث تبدو الأرض بعيدة وكائناتها بحجم حشراتٍ تهيم في الأرض، برميل يهوي فوق رؤوسها فيحصُد العشرات، لا فرق بين طفل وعجوز، امرأة ورجل، بلى إنه أقلّ كلفة من رصاصة صارت باهظة الثمن في ظل انهيار العملة، يقابله، في الوقت عينه، سكّين قابل للتدوير، لا يحتاج إلى خبرة في تصنيعه، فهو متوافر بكثافةٍ في الحياة، هل يمكن تخيّل حياةٍ بلا سكاكين أو سواطير؟ لا يحتاج إلى تعقيم، طالما هو مرصودٌ للذبح، لقطع الأعناق، لفصل الرؤوس عن أجسادها، ورفعها، بعد تدحرجها، على أسنّة السكاكين المشحوذة المباركة، سكّين يحتاج إلى الشحذ بين رأس ورأس، بين عنقٍ وعنق، ليس من أجل الموت الرحيم للضحية، بل من أجل استمتاع قاطع الرؤوس، من أجل أن يبتهج بخفّة يده وتسديده الصائب، من أجل أن يُبرز مهاراته أمام الكاميرا التي تصوّره لبثّ الرسائل إلى الجموع، سكّين يستطيع حاملها أن يذبح بها المئات والألوف إن شاء واستطاع، طالما هو على قيد الحياة، تكلّفه شحذها على حجر فقط، فتصبح بتّارةً بخفّة، ضربتها لا تخيب.

صار الموت ينتظر السوري خلف الأبواب، على حجارة الرصيف، أمام عتبات البيوت، في الساحات، على الطرقات، في الغرف حتى لو كانت مغلقة

صار الموت اليوم أقلّ تكلفة بكثير، وأكثر استخفافاً بالحياة، وأكثر مباغتةً، صار الموت ينتظر السوري خلف الأبواب، على حجارة الرصيف، أمام عتبات البيوت، في الساحات، على الطرقات، في الغرف حتى لو كانت مغلقة، وفي المخيّمات حيث البؤس في أعتى صوره، بل صار أكثر دهاءً، صار يخطف الشباب في سكتات قلبية ودماغية.
ليس هذا فحسب، بل صارت الجريمة النشاط الأكثر شيوعاً، القتل المخطّط أو القتل العرضي، وليد لحظته، والأدهى أن وسائل التواصل الاجتماعي صارت متوافرة بغزارة ويُسر لدى الغالبية، بالرغم من انعدام الخدمات والبنى التحتية، خصوصاً الكهرباء، والخبر ينتشر في اللحظة باعتبار أن لدى الغالبية باقات اشتراك في خدمة الإنترنت على جوّالاتهم، لا يمكن من يتابع الصفحات التي تنشئها مجموعات سورية، في أي منطقةٍ من مناطق سورية المقسّمة، إلّا أن يُصاب بالهلع ويجافيه النوم، فيما لو فكّر في فتح هذه الصفحات لهول الموت فيها، موت يلاحق الأطفال، إنْ بالخطف أو الإلقاء في الحاويات أو على أبواب الجوامع والكنائس وهم حديثو الولادة، آخرهم الطفلة جنى في حيّ حمصي، موت يخطفهم من الجوع والمرض، موت يواجه المرأة السورية لمجرّد أنها امرأة، بالاغتصاب والقتل حيناً، بالقتل غسلاً للعار كما هو شائع، بالموت في جرائم يسمّونها جرائم شرف، موت لأجل السرقة، خصوصاً للكبيرات والوحيدات، موت بين الشباب في كل مشاجرة تقدح كالنار في الهشيم وأدوات الموت جاهزة، متوافرة بين الأيدي، إن لم تكن سلاحاً فسكيناً أو عصاً أو حجرة، أو تهشيماً للرأس فوق أي جسمٍ صلب، كما حصل يوم الاثنين على دوار الثورة في اللاذقية. الموت حاضرٌ متوافر بغزارة، هو "بين الأيادي" في تمثّل لمقولة شائعة بين الناس عن الجاهزية باندفاعٍ وبلا قيد، نعم يقولها الناس بكثرة: أنا بين الأيادي، لكن السوري اليوم لم يعد يجرؤ على قولها، فهو لا يستطيع تقديم خدمةٍ لنفسه أو عياله، فكيف يمكنه المساعدة كما تقتضي المروءة والقيم التي كانت مزدهرةً في حياته قبل هذا الخراب؟ لكن الموت هو الوحيد القادر، الموت الرخيص.

شعبٌ يخسر طاقاته الكامنة المنتجة الإبداعية بهذا الشكل، بزرع الموت في مفاصل حياته، في تجاهل تامّ للمسؤولين عنه، أو الذين صادروا بالقوة حقّ تمثيله

يتمادى الموت على الحياة الجمعية للسوريين، يمهّد له الطريق شحّ هذه الحياة، اضطرابها، عصابها، غضبها، مكابدتها، يأسها، هروبها في مسارب لعينةٍ إلى أعماقٍ مظلمة، يمهّد له الطريق جرح الكرامة، انكسار الكبرياء، التضاؤل أمام الواجب، العجز عن المبادرة، احتطاب الواقع، الخسران والفقدان، خسران الحاضر وفقدان المستقبل، والتباهي الفاجر لتلك الطغمة الفاسدة بحياتها المسرفة حدّ الإسفاف أمام عيون المحرومين، فلديها الكهرباء والماء والمحروقات وأصناف الطعام والخبز الفاخر والمعجنات، والخوف المريع من حقيقة أن لم يعد هناك وطن، على ضحالة إدراك معناه لدى البسطاء، لكنهم كانوا يشعرون بالوطن، طالما لديهم سقف يُؤويهم حتى لو من صفيح، لهم رغيف خبز عند الصباح، ولديهم أملٌ بآخر في الغد، حتى أحلام هؤلاء البؤساء كانت ممكنة، فكثيرون هجروا قراهم وأريافهم المهملة القاحلة وزحفوا باتجاه المدن، أملاً في فرصة عيش أفضل، وحتى لا ينقطع الرغيف عنهم، لكنهم بقوا مهملين، وازدادت الفجوة بينهم وبين من يطلّون على حياتهم من حيث يتكدّسون في الأطراف والهامش، سكان المدن.
اليوم بلادهم مقسّمة، ومعروضةٌ في بازارات السياسة، وأحلامهم مستحيلة، لا فرق بين منطقة وأخرى في هذه البلاد المتهالكة، الغالبية الساحقة من الشعب مرميةٌ في مواجهة موتها، والقلة القليلة تتحكّم في مصير هذه الغالبية ولقمتها، انظروا إلى واقع مناطق النظام، واقع منطقة حكومة الإنقاذ، واقع منطقة الحكومة المؤقتة، ربما واقع منطقة الإدارة الذاتية أفضل قليلاً لناحية تأمين متطلبات العيش، لكن الموت فيها مزدهرٌ أيضاً بطرق أخرى، منها الاقتتال ومنها الموت المنهمر من طائرات مسيّرة، هذه هي سورية بعد 11 عاماً ونيّف من الثورة المغدورة والحرب الخسيسة.
الموت يدوّن تاريخاً بسرديّاتٍ متنوّعة تختلف عن التي يحفظها التاريخ، سبقتنا شعوب كثيرة إلى ظروف مشابهة، بل لنا أيضاً تاريخنا في الحروب والكوارث، لكن ما يحصل اليوم أكثر قسوة وغرابة وسوريالية، وأكثر مقدرة على دكّ أسس المجتمعات، فأين الغرابة في الانهيارات الحاصلة؟ لا غرابة بالطبع، لكن هذا التأكيد لما هو واضح وجلي يقضي على الأمل في أن يكون هناك نهوضٌ وبناءٌ عمّا قريب، فشعبٌ يخسر طاقاته الكامنة المنتجة الإبداعية بهذا الشكل، بزرع الموت في مفاصل حياته، في تجاهل تامّ للمسؤولين عنه، أو الذين صادروا بالقوة حقّ تمثيله، من نظام ومعارضة وسلطات أمر واقع، من الصعب أن يكون لديه مشروع مستقبلي، وقدرة على الشروع القريب بتنفيذه، هل علينا أن ننسى بلاداً كان اسمها سورية؟ وأي جزء منها سيكون له فرصة أن يرث الاسم؟