عودة الكلب الضالّ

عودة الكلب الضالّ

07 ابريل 2023

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

إلى أي مدىً استفادت الحكومة الأردنية من إشكالية "الكلب الفالت والمربوط"، وهي تشنّ حملتها الشعواء الحالية على "الكلاب الضالّة"، إثر تفاقم شكاوى المواطنين من كثرة قطعانها التي باتت تجوب الشوارع، وتثير الهلع بينهم، ولا سيّما أن بعضها تسبّب بحالات وفاة وتشويه، منهم طفل قضى قبل أيام.

يقول المثل المعنيّ، الذي دخل القاموس السياسي في دول العالم الثالث: "اضرب الفالت بخاف المربوط"، سواء كان الفالت حمارًا أو كلبًا، أو بشرًا، وهي نظرية "ردع" معروفة، القصد منها تلقين الشعوب درسًا مسبقًا لما سيكون عليه مصير من تُساوره أفكار الانفلات خارج القطيع.

أما الأخطر من "الفالت والمربوط"، فهو المصطلح ذاته الذي يطلق على كل من يغرّد خارج السرب، بأنه "ضالّ"، ولربما كان المخرج الراحل يوسف شاهين أول من نبّه له عندما أطلق المصطلح على أحد أفلامه "عودة الابن الضالّ"، الذي يختصر عنوانُه الفيلم كله، ليتركنا أمام أسئلة بالغة الحيرة: هل كانت عودة الابن رشادًا أم ضلالًا؟ وأين تكمن فكرة الضلال، ولا سيما في بلدان تراوح بين استبداد مزدوج من السلطة والمجتمع معًا؟

لو أفلحنا في الإجابة عن هذه الأسئلة، لعرفنا لماذا تبنّت الأنظمة العربية هذا المصطلح؛ لتطلقه على كلّ من يخرج على منظومتها الاستبدادية، فتُلصق به تهمة "الضلال"، ليُقال عن أصحابها "الشرذمة الضالّة"، أو "الفئة الضالّة"، مستفيدة من المصطلح الديني نفسه: "ولا الضالّين"، وكأنها تُضفي مسحة دينية على مصطلحها السياسي، في محاولةٍ لإقناع شعوبها بأن "الضالّين" عن منظومتهم أو الخارجين عليها هم، بالضرورة، ضالّون عن الشرع والدين وأعراف المجتمع، علمًا أن الأنظمة نفسها هي التي تزعم محاربة تسييس الدين عندما يتعلّق الأمر بجماعاتٍ دينيةٍ معارضة كالإخوان المسلمين، أو غيرهم.

تحتفي الأنظمة الاستبدادية بهذا المصطلح، كثيرًا، لأنها مفتونة بفكرة الحظائر، وأشدّ ما يرعبها التمرّد على الحظيرة، ومن يفعل سيُتهم بأنه "ضالّ" ينبغي له أن يتوب ويؤوب إلى القطيع المسالم المستكين، المسيطر عليه، والمسبّح بحمد سلطته وبركاتها، وبفضائل قيود مجتمعه التي تحميه من نفسه الأمّارة بـ"الحرية". والاحتفاء بعودة "الابن الضال" أو "المنفلت" يكون عظيمًا، بالطبع؛ لأن العودة هنا مقرونةٌ بالتجربة، وعلى الآخرين أن يتّعظوا فلا يجرّبوا "الفلتان" مثله، فالعبرة جليّة، و"العاقل من اتّعظ بغيره". وأما إمعان الابن في الضلال، فيستوجب احتفاءً من طراز آخر، عمادُه المطاردة والملاحقة والقتل إن لزم الأمر، و"العبرة" ماثلةُ أيضًا لمن يفكّر بمحاكاة التجربة نفسها، أو ربما "التعقيم"، على غرار ما لجأت إليه قريحة السادة الذين أرادوا معالجة معضلة الكلاب "الضالّة" في الأردن، اتقاء شرّ منظّمات حقوق الحيوان، فقد ارتأوا محاكاة تجارب غربية في هذا الشأن، عن طريق "تعقيم" الكلاب، لقطع نسلها، لتبدو وكأنها "إبادة محترَمة" لا تثير الحفائظ، ولو كان "التعقيم" مجديًا مع البشر "الضالّين"، فلربما لجأت إليه الأنظمة العربية، بلا خشية أو قلق، هذه المرة، من إثارة حفائظ منظمات حقوق "الإنسان".

لا أدري لماذا يتمّ زجّ الكلاب في تصفية الحسابات السياسية؟ ما أدريه، فقط، أن الكلاب "الضالّة" ليست ضالّة، بل هي دوابّ منسجمة مع فطرتها التي خلقت عليها، أما الكلاب الضالّة الحقيقية فهي كلاب البيوت التي يتمّ انتزاعها من قطعانها وتدجينها، فالكلاب المدجّنة هي الضالة فعلًا.

تلك هي العبرة التي ينبغي أن تستوقف الشعوب، وهي الدرس المسبق الذي تُحاول الكلاب تعليمه للبشر الذين لا ينظرون أبعد من حظائرهم، ليعرفوا أن ثمّة خلف الأسلاك الشائكة فطرة خلقوا عليها تدّعي الحرية، فإن اتبعوها اهتدوا مهما دفعوا من ثمن، وإن نكصوا عنها ضلّوا مهما قبضوا من ثمن.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.