ماكرون: سقوط "الطرف الثالث"

25 مارس 2023

فرنسي يحمل في تظاهرة في تولوز لافتة "فيروس ماكرون خطر على صحتك..." (15/3/2023/Getty)

+ الخط -

دائماً ما يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه "طرفاً ثالثاً" في أي ملفّ داخلي أو خارجي. لكن عشوائيته في التصرّف كـ"طرف ثالث" كبّدته خسائر عدة. ليس سهلاً أن تكون طرفاً متمايزاً إلى درجة الابتعاد قليلاً عن المعسكر الغربي، عبر محاولة المحافظة على الحدّ الأدنى من العلاقة مع روسيا، بعد غزوها أوكرانيا. وليس هيّناً أن تتراجع قواتك العسكرية في دول أفريقية عدة، بغضّ النظر عن حالات الغضب الأفريقية من باريس، في وقتٍ يدقّ فيه النفير العسكري في الكوكب أجمع. ليس صحيحاً أن تراهن دائماً على صعود اليمين المتطرّف الفرنسي، للفوز بأصوات انتخابية. الاختيار الإجباري للناخبين لماكرون، هرباً من تمدّد المتطرّفين، لا يعني دفاعاً عن خيار "الطرف الثالث".

اختار ماكرون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. أثار هذا القرار غضب المواطنين الذين خطّطوا طويلاً لمثل هذا السن، وما يعني من رواتب تقاعدية واستراحة مستحقّة بعد عقود من العمل، فضلاً عن جيل الشباب الذي أدرك أن هذا القرار سيؤجّج المنافسة في سوق العمل، ويؤخّر اندماجهم فيه، على وقع التضخّم وارتفاع الأسعار. بالنسبة للرئيس الفرنسي، سيسمح هذا القرار بضخّ الأموال في الخزينة الفرنسية ويُرشد ماليتها، من دون أن يحسب أن كلفة الأضرار الناجمة عن الاحتجاجات المعارضة للقرار قد تصل إلى حدٍّ مُعادلٍ للمبالغ التي يتطلّع ماكرون لجنيها للدولة عبر رفع سن التقاعد.

ربما لو أن القانون يسمح له بالفوز بولاية رئاسية ثالثة متتالية لما كان ماكرون قد طرح مشروع رفع سن التقاعد. ولو أن حزبه يملك أرضية صلبة، بعيداً عن شخصه، لكان ضغط عليه لمنع إقرار مثل هذا القانون. لكن لا هذا ولا ذاك. في عام 2027، وفقاً للدستور، تنتهي الولاية الثانية والأخيرة لماكرون، ويغادر قصر الإليزيه. وخلال فترة قصيرة، يُصبح فرانسوا هولاند آخر ... منسياً في الوسط السياسي الفرنسي.

أسلوب العمل السياسي الذي يتبعه ماكرون ليس مخصّصاً للداخل الفرنسي فحسب، بل أيضاً في ملفّات خارجية، باسم "التمايز" و"إعادة الهيبة لفرنسا"، غير أن الجزائر والمغرب ولبنان وتونس والعراق ومالي وبوركينا فاسو وأستراليا وأوكرانيا وبريطانيا وألمانيا والصين وغيرها أمثلة عن خسائر ماكرونية بالجملة، ما دفع باريس إلى التراجع خطواتٍ إلى الوراء. غير أن في ذلك مشكلة مزمنة. فرنسا في نهاية المطاف دولة عظمى. موقعها الجيواستراتيجي بالغ الأهمية سواء في أوروبا أو في مناطق ما وراء البحار. وأي زلزال سياسي في قلب باريس سيُسمَع صداه في أعماق جزر بولينيزيا وعلى أبواب البرازيل في غويانا. دولة مثل فرنسا قد يؤدّي فشل طبقة سياسية فيها إلى توثب فريق أو شخص شعبوي إلى السلطة، مستنداً إلى الأوضاع الحالية المتردّية، ومنطلقاً بعناوين اجتماعية ـ اقتصادية. وفي الواقع، سلوك ماكرون كـ"طرف ثالث" يُمهّد الطريق لسباق بين معسكرين متشدّدين: اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي. بين مارين لوبان، المتأهبة لرفع بيرق يميني على أنقاض الكلاسيكيات السياسية الفرنسية، وجان لوك ميلانشون، التروتسكي التوجّه.

سيضع الأسلوب الماكروني فرنسا بين تطرّفين، ويُطيح وسطية اعتمدت عليها باريس عقوداً طويلة، وساهمت في إبقاء المرونة السياسية حيّة بين أحزابها وتجمّعاتها وأفكارها. غير أن سلوك الرئيس الفرنسي يقضي تدريجياً على أهمية "الطرف الثالث". وربما مع تكثف الظروف وتأخر حسم الملفات الاقتصادية ـ الاجتماعية في العالم، لن تكون باريس بعيدة عن الانزلاق إلى توتّرات أمنية، اعتقدت أنها ولّت إلى غير رجعة.

هل يفكّر ماكرون بخطورة ما يفعله؟ لا أحد يعلم ما الذي يفكر به، غير أن تمسّكه برفع سن التقاعد يشي بإيمانه في أن لا بديل عنه لدعم الاقتصاد الفرنسي. ولن يؤدّي هذا الاعتقاد إلى تحوّل ماكرون بطلاً، على غرار نابوليون بونابرت وشارل ديغول، بل رئيس لم يفكّر الفرنسيون يوماً أنهم سينتخبونه.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".