هل أراد الإسرائيليون سقوط بوتين؟

30 يونيو 2023
+ الخط -

حين نتابع ردود الفعل الإسرائيلية تجاه تصاعد الأحداث في روسيا، وما حدث من تمرّد أطلقه رئيس شركة فاغنر الروسية، يفغيني بريغوچين، بدأ ضد قادة المؤسّسة العسكرية الروسية، وتطور ليشمل الرئيس الروسي، بوتين، نفسه، ثم انتهى لاحقا بعودة قوات فاغنر إلى قواعدها، فإننا نجد أنفسنا إزاء عدة ملاحظات مهمة:

أولا، ترتبط الملاحظة الأولى بعدم وجود ردود فعل رسمية تجاه ما حدث في روسيا؛ إذ لم يصدُر شيء بشأن الأحداث الجارية، لا من رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، ولا من وزارة الخارجية، من بداية الأحداث حتى نهايتها. لكن ما صدر وقت اشتعال الأزمة من مقالاتٍ، أو تعليقاتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تحليلاتٍ لمتخصّصين إسرائيليين في الشأن الروسي وكتاب في الصحافة الإسرائيلية سار كله في اتجاه واحد، وحمل في طياته فرحةً بما يتعرّض له نظام بوتين، إلى درجة يمكن وصفها بأنها إجماع على الشماتة في روسيا ورئيسها.

يمكن تلمّس نبرة التشفي الواضحة في بعض ما صدر عن صحافيين إسرائيليين ومؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فقد غرّد المراسل السياسي لقناة كان الإخبارية الإسرائيلية، يوآف زهفي، على صفحته في "تويتر" ساخرا من تصريحات سابقة لقادة روس عن قدرة جيشهم على احتلال أوكرانيا في ثلاثة أيام: "الطموح: نحتلّ كييف خلال ثلاثة أيام. الواقع: موسكو في طريقها للسقوط خلال يوم واحد". عبّر عن المعنى نفسه العسكري الإسرائيلي السابق، دافيد ليسوفتسيف، حين غرّد ساخرا "من ثلاثة أيام نحو كييف .. إلى ثلاثة أيام نحو موسكو". وفي تغريدة أخرى كتب زهفي "لديّ تخمين عجيب: لقد فهم بريغوچين أن الحرب في أوكرانيا ستؤدّي إلى انهيار روسيا من الداخل، وحينما رأى أن أحدا من الكبار في موسكو لا ينوي وقف هذه الحرب، قرّر أن يفعل ذلك بنفسه". المتخصّص في الشأن العربي في قناة كان، روعي كايس، غرّد أيضا ساخرا "طبّاخ بوتين (يقصد بريغوچين) يطهو له وجبته الأخيرة". أما الكاتب أورين هاس فاعتبر ما يحدُث دليلا على ضعف روسيا، وظهر منتقدا السياسة الإسرائيلية تجاهها وشعورها بالخوف منها والتعامل مع موسكو كأنها ما زالت قوة عظمى "بغضّ النظر عما ستؤول إليه الأحداث في روسيا، هناك أمر واحد مؤكّد: غدا صباحا ستواصل الحكومة الإسرائيلية التعامل مع روسيا بقناعة أنها دولة عظمى، وستستمر في الخوف منها.. أما من يزعمون أنني أبالغ باستخدامي تعبير الخوف، فأذكّركم بأن إسرائيل متمسّكة حتى يومنا هذا بعدم تعيين ملحق عسكري في أوكرانيا".

اليهود لا يضيّعون أي فرصة يمكن استغلالها من أجل استقبال مزيد من الهجرات اليهودية إلى الأراضي المحتلة

ثانيا، لافتٌ أن تعامل الكتّاب والصحافيين الإسرائيليين، والمؤثرين في صفحات التواصل الاجتماعي العبرية تطابق تماما مع الرؤية الغربية، وهذا عكس شعور الإسرائيليين بالانتماء للغرب عامة، والولايات المتحدة خصوصا، وأن علاقتهم بالقوى العظمى الأخرى، روسيا والصين، هي علاقة مصالح فحسب، أما العلاقة الاستراتيجية والدائمة التي يجب الحفاظ عليها فهي مع واشنطن تحديدا.. غير أن إسرائيل حين تعاملت مع الحرب الروسية الأوكرانية وضعت في الاعتبار وجود الروس في سورية، وأن مصالحهم هناك، وحرية تحرّكهم من أجل ضرب أهداف، سورية أو إيرانية، كانت تتطلب عدم اتخاذ موقفٍ يُغضب موسكو.

على هذا الأساس، ذهب هؤلاء إلى أن ما يحدُث دليلٌ على فقدان بوتين السيطرة على الوضع الداخلي، وأنه يعيش أضعف حالاته على الإطلاق منذ وصوله إلى الحكم عام 2000؛ وأكد مراسل "يديعوت أحرونوت" السابق في روسيا، والمتخصّص في الشأن الروسي، يئير نافوت، ضبابية المشهد، مع وضوح أمر واحد، أن الرئيس بوتين لم يعد يسيطر على الأوضاع، واعتقد نافوت أن بريغوچين أخذ خطوته تلك بعد حصوله على تأييد واضح من قوات أخرى في الجيش الروسي، كما أن نافوت فتح الباب واسعا أمام احتمالاتٍ، يفضي جميعها إلى التخلص من الرئيس بوتين؛ ما بين إسقاط نظامه، أو الاختباء في مكانٍ ما، أو الاضطرار للهرب خارج روسيا (بيلاروسيا مثلا)، أو اعتقاله، أو ربما قتله... ولم تفت مراسل "يديعوت أحرونوت" الإشارة إلى الشعور بالفوضى وعدم الثقة في موسكو ومدن روسية أخرى، إضافة إلى ما ذكره عن تقارير عن أن مروحية بوتين توجّهت إلى قصره في جنوب موسكو، أو إلى مكان غير معلوم على وجه اليقين ... الأكثر من ذلك أن نافوت اعتبر ما يحدُث الأغنية الأخيرة لنظام بوتين بعد حكم دام 23 عاما، وقال إن كل قنوات تليغرام التابعة لمؤيدي بريغوچين، والمقرّبين له، كانت تدعو إلى إزاحة بوتين، بل وقتله، وإن روسيا تواجه خطرا حقيقيا جرّاء الصراع الداخلي المسلح، الذي قد يفضي إلى حرب أهلية.

 لم تغب المكيافيلية الإسرائيلية عن المشهد؛ فقد تناول بعض الكتاب الأزمة في روسيا بمنطق كل يغني على ليلاه

ثالثا، يلاحظ كذلك أن ثمّة مقارنات حول مشابهة ما يحدث في روسيا حاليا، مع تجارب أخرى في منطقتنا العربية وفي إسرائيل؛ فقد قارن الصحافي في صحيفة هآرتس، أنشيل فيفر، في لهجة ساخرة واضحة بين ما يحدُث عند تأسيس مليشيات عسكرية خاصة واحتمال خروجها عن السيطرة، وما يحاول بعض الإسرائيليين فعله ومخاطر ذلك "لا شكّ أن تأسيس مليشيات عسكرية خاصة فكرة ممتازة، من الجيد أن هناك من يشجّع هذه الفكرة عندنا (يقصد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي يريد إنشاء قوة أمنية خاصة)". وقارن روعي كايس بين ما تقوم به قوات فاغنر في روسيا، وما تقوم به قوات الدعم السريع في السودان "حكاية ما قبل النوم: مؤخّرا يساعد بريغوچين وقوات فاغنر مليشيات أخرى في المنطقة، قوات الدعم السريع التي أسّسها حميدتي في السودان، من أجل تنفيذ انقلاب ضد عبد الفتاح البرهان، حاكم السودان وقائد الجيش النظامي هناك، ألا يبدو الأمر مألوفا؟!".

امتدّت المقارنة لتشمل مشابهة ما يحدث حاليا بما حدث في عام 1917؛ ولمح الصحافي في يديعوت أحرونوت، ناداف إيال، إلى احتمالية تطوّر الوضع إلى ما يشبه أحداث الثورة البلشفية؛ ففي ذلك الوقت، كانت روسيا طرفا في الحرب العالمية الأولى، وتعرّضت لقلاقل داخلية بدأت حينما أتاحت ألمانيا لفلاديمير لينين الوصول إلى روسيا في "عربة قطار مختومة، وكأنه حشرة الموت الأسود" طبقا لتعبير تشرشل، وكانت مناورةً ناجحةً أدّت إلى خروج روسيا من الحرب. وختم إيال بأنه يحسب الثواني حتى يظهر هؤلاء الذين يصوّرون بريغوچين على أنه عميل للمخابرات الأميركية والأوكرانيين.

بدا التعامل الإسرائيلي مع الحدث الروسي وكأن له نتيجة واحدة مؤكّدة، سقوط بوتين

رابعا، لم تغب المكيافيلية الإسرائيلية عن المشهد؛ فقد تناول بعض الكتاب الأزمة بمنطق كل يغني على ليلاه؛ فقد كتب رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في مدرسة لاودر للدراسات الحكومية والاستراتيجية، والدبلوماسية في هرتسليا، غاي باخور، على موقعه "نحن أمام حربٍ كبيرة بين الجيش الروسي ومتمرّدي فاغنر؛ طائرات روسية تقصف الجنود المتمرّدين... هناك تقارير إن رحلات الطيران ستتوقف من روسيا تماما، هكذا سيصبح اليهود عالقين، بعدما ظنّوا أن بإمكانهم البقاء، ولهذا فإن أي يهودي يمكنه الخروج من روسيا الآن، فليفعل فورا". وهذا يعني أن اليهود لا يضيّعون أي فرصة يمكن استغلالها من أجل استقبال مزيد من الهجرات اليهودية إلى الأراضي المحتلة، وإذا كانت أعداد اليهود الروس هناك قد تتخطى 600 ألف فما المانع من انتهاز الحدث لتحقيق ما تريده إسرائيل.

خامسا، لفت الانتباه بشدّة في طريقة التناول الإسرائيلية، وقد يكون الأهم، أن أحدا من المحللين والصحافيين الإسرائيليين لم يتحدّث عن احتمالية قمع التمرّد، وقد أجمعت كل التحليلات تقريبا على ضعف بوتين حاليا، واحتمالات سقوطه الكبيرة، وإن أبدى بعضهم حذرا طفيفا تجاه هذا السيناريو ... كما أكّد ليسوفتسيف أن الطريق بين قوات فاغنر وموسكو مفتوح، مع عدم وجود أي قوات نظامية يمكن أن تعيق تقدّمها في الطريق إلى العاصمة الروسية، باستثناء قواتٍ محدودة في موسكو، إلى جانب تحييد القوات الجوية لعوامل عدّة. والأكثر من ذلك ما نقله كتّابٌ إسرائيليون عن معارضين روس، أكدوا قدرة قوات فاغنر على السيطرة على موسكو.

لقد بدا التعامل الإسرائيلي مع الحدث الروسي وكأن له نتيجة واحدة مؤكّدة، سقوط بوتين، ما دفع محللين إسرائيليين إلى وصف بوتين بالدكتاتور، مثلما فعل المراسل السياسي لصحيفة هآرتس، أمير تيبون، وإلى إظهار كيف أن "نتنياهو الذي طالما انتقد رؤساء أميركيين وقادة غربيين، لم تصدُر منه قط كلمة نقد واحدة ضد الدكتاتور الروسي". يعطي هذا الإجماع انطباعا وكأن سيناريو كان مرسوما، ومتوقّعا لما قد تؤول إليه الأوضاع في روسيا، وهو انطباعٌ يتقاطع تماما مع كتابات غربيةٍ كثيرة تناولت أحداث روسيا.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.