معركة العبور وصراعاتنا المصرية

12 أكتوبر 2016

قوة مصرية تصل إلى الضفة الشرقية لقناة السويس (6/10/1973/Getty)

+ الخط -
ألقت الأزمة السياسية في مصر بظلالها القاتمة على ذكرى معركة العبور المجيدة، (6 أكتوبر 1973)، حيث شهد الفضاء الافتراضي سجالاً حاداً، وصل إلى حدّ التراشق، بين طرفيْن. جنح الأول إلى الانتقاص والتبخيس من قدر الانتصار الرائع، وحجّم الإنجاز العسكري الكبير الذي كان معجزةً عسكريةً وفق كل المعايير، وهبط بعضهم إلى مستوىً غير معقول، عندما ادّعى أنّ معركة العبور كانت "مسرحية" مشتركة، تحت إشراف القوى الدولية، من أجل هندسة مشهد إقليمي جديد، وأنها كانت "هزيمةً" جرى تجميلها إعلامياً. في حين ذهب الثاني إلى التطبيل، وإضفاء هالات التقديس على الرواية الرسمية، وتخوين أي طرفٍ آخر يقدّم طرحاً نقدياً لها.
من المفترض أن يكون الانتصار العسكري الوحيد في التاريخ المصري الحديث، فوق مستوى المعارك الجدلية، وخارجاً عن إقحامه في وهدات الأزمات السياسية، فالمعارك العسكرية التي تخوضها الشعوب، من أجل الدفاع عن كرامتها، واستعادة أراضيها، وتحرير إرادتها الوطنية، لحظات استثنائية في تاريخ الأوطان، من شأنها إعادة تشكيل الذات الوطنية، وصقل العلاقة بين الشعب ووطنه، بإعادة صهر مكونات الروح الوطنية.
كما أن الانتصارات العسكرية مِلك للوطن، وللشعب صاحب الإنجاز الحقيقي، وليست ملكاً لسلطة ما، أو لأشخاص، أو لأي نظام سياسي، ولحظة 6 أكتوبر 1973 بالغة الاستثنائية في تاريخ مصر الحديث، أعادت للمصري ثقته بنفسه، وبقدرته على الإنجاز، بالاعتماد على الطاقة الذاتية، والاستعداد للتضحية ودفع الثمن، ومواجهة التحدّيات، من أجل استعادة الكرامة، ومحو عار الهزيمة، وتحويلها انتصاراً، بغضّ النظر عن الأخطاء السياسية التي أدت إلى تصفية الإنجاز العسكري المُبهر، فقد أفسدت السياسة ما أنجزه السلاح، وفق عدّة مراحل، انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد التي كانت نقطة البداية في انحسار الدور المصري، وتكبيل قدرته على التحرّك بفاعلية. والطريف أن الاتفاقية أرادت أن تجعل علاقة مصر بإسرائيل طبيعية، كعلاقتها بأي دولة أخرى، لكن المفارقة أنها، بعد تطبيقها، جعلت تلك العلاقة فوق طبيعية وفوق عادية (!).
كان التوظيف السياسي لمعركة العبور حاضراً بقوة في عهد حسني مبارك، حيث جرى التضخيم الإعلامي الشديد في دور "الضربة الجوية" التي "فتحت باب الحرية"، وكأنّ المعركة اختُزِلَت في الضربة الجوية، كما جرى تضخيمٌ مماثلٌ لدورقائد سلاح الجوّ، بهدف الحصول على شرعيةٍ بصورةٍ أو بأخرى، من شأنها التغطية على حجم الفشل الذريع، والإفلاس
الإنجازي لنظام مبارك، فقد كانت الحقبة المباركية الطويلة بامتياز حقبة (اللامشروع واللاهدف)، والانهيار الشامل لمؤسسات الدولة، والتجريف الممنهج للمجتمع، كما جرى، بالقدر نفسه، الانتقاص الشديد بحقّ شخصياتٍ قيادية، كان لها دور كبير في المعركة، مثل الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري إبّان المعركة التي كان بطلها، والعقل المُفكّر لها، وظلّ طريداً في المنفى سنوات، وعندما عاد إلى الوطن، كان جزاؤه السجن بضع سنين (!).
كما جرى أيضاً تجاهل دور سلاح "الدفاع الجوي" في المعركة، وكان دوراً رئيسياً غير مسبوق في التاريخ العسكري الحديث، حيث تمّت عملية العبور بغطاء من صورايخ الدفاع الجوي المضادة للطائرات، وليس بغطاء جوي تقليدي، وكان لتلك الصواريخ الفضل الأكبر في إسقاط طائرات العدو.
كانت معركة العبور معجزة عسكرية حقيقية بكل المقاييس في مراحلها كافة. وفي هذا الصدد، كتب جمال حمدان في كتابه "6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية" عن ملحمة اقتحام خطّ بارليف: "الخلاصة، لقد كانت ملحمة اكتساح خطّ بارليف، في جوهوها، صراعاً بين الشجاعة والمناعة، شجاعة المقاتل البحتة، ومناعة الأبراج المُشيّدة، مثلما كانت مواجهةً بين فلسفة الخطوط الزاحفة المتحرّكة، ونظرية الخطوط المُحصّنة الثابتة. وفي الحاليْن، تغلّبت الأولى على الثانية: تغلّبت الإرادة على الأرض، والإنسان على السلاح، وأصحاب الأرض على الغاصبين. لقد جاءوا، رأوا، وانتصروا...عبروا...اكتسحوا وانطلقوا".
تتعامل الأمم المُتحضِّرة مع الأحداث المفصلية في تاريخها بقدرٍ كبير من الجديّة والموضوعية، فيكون التوقّف عند الحدث، وتحليل سياقاته وملابساته، عبر المعلومات التي تحويها الوثائق والبيانات، بهدف استخلاص الدروس، من أجل الاستفادة مما كان، للتأكيد على أسباب النجاحات، وتلافي الأخطاء التي قادت إلى الإخفاقات، أمّا الأمم الأخرى فتتعامل مع تاريخها بصورةٍ هزلية، وبطريقةٍ احتفاليةٍ كرنفالية، تهدف إلى التمجيد الأجوف للذات الوطنية، وتملّق النزعات الشوفينية بترديد الهتافات والأغنيات.
وفي المقابل، يقع بعضهم في خطأ فادح، عندما يشكّك في الانتصارات في ذاكرتنا الوطنية، بغرض المكايدة وتصفية الحسابات السياسية، فيصرّ بعضهم على أن يخوض المعركة الخطأ بالطريقة الخطأ، وبأفقٍ بالغ الضيق وبروح انهزامية، حيث لا يعني تشويه الصفحات المُشرِقة في تاريخنا الوطني تشويه حقبةٍ سياسية بعينها، وإنّما هو تشويه لوجه الوطن، وطمس لمعالم ذاكرته التاريخية، وتشكيك في قدرة هذا الشعب على الإمساك بزمام المبادرة، وإقدامه على الفعل والإنجاز، كما أنه، على المدى الطويل، يخلق أجيالاً تعاني من انقسامٍ حادٍّ في وعيها الجمعي وذاكرتها الوطنية، لنجد أنفسنا أمام فريقيْن، كل منهما يحمل ذاكرةً تاريخيةً مغايرةً في العناوين والتفاصيل لذاكرة الفريق الآخر.