بيروت مدينة مهشمة

08 ابريل 2016

شارع في بيروت في مايو 1948 (Getty)

+ الخط -
في شارع الحمرا المتعدّد، لم يبق شيء من مدينة بيروت التي عاشت هنا زمنها الجميل عدة عقود، وما كان في النزع الأخير منذ سنوات يلفظ اليوم أنفاسه أثراً بعد آخر. حتى البيوت القديمة ذات الطراز التقليدي الرفيع التي كانت تقف على بعض النواصي لم تعد موجودةً وتنهض مكانها عماراتٌ اسمنتيةٌ شاهقة.
ظاهرياً، يبدو من شارع الحمرا أن هناك حركة بناء وتوسع، لكنها لا تضيف شيئاً إلى شخصية المدينة، بل إنها تستهلك حيزاً من فضائها، وهي من جهة أخرى، تعمل معاول الهدم في تراث عمراني، يعود بعضه إلى بدايات القرن العشرين. وفوق ركام الماضي الحافل بالمعاني، تنتصب أبراجٌ غاية في البشاعة، لا تأخذ من العمارة الحديثة سوى جانبها السطحي الذي يقوم على الزواج بين الزجاج والإسمنت الخالي من أي لمسةٍ جمالية، وهو، في نهاية المطاف، لا ينتج منازل للحياة، وإنما يستولد أقفاصاً مكيفةً تصلح مكاتب لشركات السمسرة.
خلال أسبوع واحد، تم الإعلان على نحو مفاجئ عن توقف صحيفة السفير التي جاوز عمرها 40 عاماً، وإغلاق مكتبة البرج، واكتشاف شبكة دعارة للاتجار بشقاء نساء سوريات فقيرات، جارت عليهن الأيام فرماهن الزمن الرديء، زمن بشار الأسد، إلى أحضان المافيات.
يعكس رد الفعل على اكتشاف شبكة الاتجار بالنساء، إلى حد كبير، ما آلت إليه الأوضاع في لبنان. وعلى الرغم من جسامة الفضيحة، فإن رائحتها سرعان ما اختلطت برائحة النفايات المكدّسة في الشوارع منذ أشهر. ولم يكن الأمر يحتاج إلى سياسيٍّ، من وزن وليد جنبلاط، ليؤكد للرأي العام أن شبكة جونية التي كانت تتاجر بفقر النساء السوريات تعمل بتواطؤ مع مسؤولين كبار في الدولة، فهذا الفعل المشين ما كان له أن يحصل، لو لم يكن النظام اللبناني القائم على السطوة الطائفية برمته بات منخوراً ومتعفناً، يعتاش على النفايات والشقاء.
تدهور مدينة بيروت غير بعيد عن خراب دمشق وحلب وبغداد، هذه المدن التي بقيت على الدوام تتنفس الحياة من رئةٍ واحدة، وتتواصل مع بعضها بطرقاتٍ لا تؤثر فيها الحواجز. وسواء كانت هناك وسائل مواصلات أم لم تكن، فإن المسافات بقيت قصيرة بين الناس، والرياح التي كانت تهب من بغداد سرعان ما تصل إلى حلب ودمشق وبيروت، وبالعكس. والأمر الذي لا يحتمل السكوت عنه أن هذه المنطقة لم تعرف حالاً من التمزيق لنسيجها العام مثلما تشهد اليوم، فحتى خلال الحرب العالمية الأولى، ظل التواصل السياسي قائماً بين مكونات هذه الحواضر، إلى حد أن واضعي اتفاقية سايكس بيكو لم يستطيعوا القفز كثيراً فوق حقائق الجغرافيا السياسية والثقافية العربية الواحدة. كان ذلك قبل قرن، حين جرى تقسيم المنطقة إلى دويلاتٍ تحت الانتدابيْن، الفرنسي والبريطاني.
خراب بيروت حصيلة لرداءة الوضع العربي، وانسحاب العرب من دورهم، وترك الأبواب مفتوحةً للتدخلات والاحتلالات من إسرائيلية وإيرانية. وتدمير بيروت لم يبدأ أمس، بل هو يعود إلى زمن بعيد، حين كانت هذه المدينة تشكل رئة للعالم العربي، من خلال الصحافة ودور النشر والحريات. وعلى الرغم من أن صحف هذا البلد لم تكن مستقلة كلياً، فإنها كانت توفر منابر مفتوحةً للأصوات المقموعة في البلدان العربية التي حكمها العسكر والحزب الواحد.
في المرة السابقة، كان المطلوب مصادرة دور بيروت، واليوم يجري العمل على إنهاء كل ما بقي من المدينة كدور وعاصمة لبلد عربي مستقل، مثلما هو الأمر مع بغداد ودمشق. ولا جدال، فإن المستفيد المباشر من ذلك هي إيران التي ما كانت ستصل الى هذا المكسب بسهولة، لو لم ينسحب العرب من دورهم، ويتركوا فراغاً يمكن لأي أحدٍ أن يملأه.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد