باريس لندن.. طلاق مدينتين

15 يوليو 2016

ميتران وملكة بريطانيا يفتتحان نفق المانش (6 مايو/1994/Getty)

+ الخط -
ربما من السابق لأوانه الحديث عن حالة طلاق بين باريس ولندن، لكن الأسابيع الثلاثة التي تلت الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي حفلت بكثيرٍ من التشاؤم والقلق، مخافة أن تقود عملية الانفصال إلى طي صفحةٍ من التاريخ بين المدينتين.
الصفحة المشتركة بين باريس ولندن ليست تلك التي بدأت مع انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973، فهذه لا خوف عليها، ويمكن لها أن تبقى مفتوحةً بطرق مختلفة، تبعاً للمصالح الاقتصادية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. بينما الصفحة التي هي مثار حسابات وهواجس تلك التي فتحها نفق المانش بين المدينتين عام 1996، حيث بات هذا الممر الجغرافي منذ ذلك الوقت ناقلاً للحرارة بين الضفتين.
لم تكن حسابات السياسيين الفرنسيين والبريطانيين الذين يقفون وراء مشروع النفق تصل إلى ما أحدثه من آثار، وما ربط من أواصر بين لندن وباريس، وكانت التقديرات لا تذهب إلى ما يلعبه المشروع اليوم من دورٍ لتقريب المسافات، حتى إن الرئيس الفرنسي في تلك الفترة، فرانسوا ميتران، لم يكن متحمساً لبناء النفق تحت المانش الذي بدأ عام 1988، وانتهى في غضون ست سنوات، وعدم حماس ميتران نابعٌ من عدم انجذابه للفضاء الإنكليزي، وميله إلى ألمانيا التي كان يقودها هيلموت كول الذي يعد أحد الذين تبنوا رؤية الرئيس الفرنسي لإحداث نقلةٍ كبيرةٍ في البناء الأوروبي، من فضاء اقتصادي بحت إلى مجال هوياتي داخل أوروبا فيدرالية، وقام تصوّر ميتران على أن فرنسا وألمانيا هما رأس القاطرة الأوروبية، لأنهما قادرتان على تمويل عملية إلغاء التفاوت بين بلدان أوروبا، وكان على قناعة بأن بريطانيا التي تحكمها اليمينية المحافظة، مارغريت تاتشر، ليست في وارد أن تحلم الحلم الأوروبي نفسه، وكانت تريد لبلدها أن يبقى شريكاً في الربح خارجاً من الخسارة.
حين بدأ قطار شركة "يوروتونيل" التي شقّت النفق، لم يجد الأعداد الكبيرة من المسافرين التي كان يعوّل عليها، وبقيت الشركة خاسرةً عدة سنوات. ولكن، بعد مضي أربع سنوات، صار واسطة النقل الرئيسية بين باريس ولندن إلى حد أنه احتل مكان الطائرة، وهناك قرابة مائة ألف مسافر يومياً في الاتجاهين. وهؤلاء ليسوا من السياح فقط، بل من المقيمين في إحدى العاصمتين. وللتدليل على ما أحدثه النفق من تحولاتٍ في علاقة البلدين، هناك مصطلح يتم استخدامه في باريس ولندن "جيل نفق المانش"، هذا الجيل الذي ولد لآباء استقرّوا في إحدى العاصمتين، ويبلغ اليوم 20 عاما، وهو ثمرة استقرار اقتصادي يقف وراءه الاتحاد الأوروبي أولاً، قام على أساس أن المواطنة في أوروبا باتت واحدةً، ولا رجعة عنها، تنظمها قوانين تسري في الاتجاهين. ولم يكن أحد يظن أن هذا الوضع سوف يخضع للتغيير أو المراجعة في يوم من الأيام. ولكن، جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وسيتم بموجب الانفصال فتح صفحةٍ جديدةٍ لن تكون في صالح الذين استقرّوا في أحد البلدين.
تحفل الصحف في العاصمتين بقصص صغيرة، معبرة عن الوضع الجديد، تحمل تفاصيل صادمة تعود بالعلاقات إلى عهود بعيدة، بشكل مفارق، لكنها في العمق أخذت تدور جميعها في دوامةٍ لا يعرف أحد طريق الخروج منها في القريب العاجل.
نفق المانش بطول خمسين كيلومترا تحت مياه البحر، بعمق يبلغ عدة كيلومترات، يحتاج القطار إلى حوالي 20 دقيقة كي يجتازه. وبعد عشرين عاماً على وضعه في الخدمة، لم يعرف حادثاً واحدا، وجرى النظر إليه أيضاً كمعجزة فنية، لطالما راودت الذين كانوا يحلمون بربط عاصمتين أوروبيتين بعلاقة حبّ مديدة، حتى لو أنها بقيت افتراضية.