مستبدّون بقناع ليبرالي

مستبدّون بقناع ليبرالي

02 اغسطس 2016
+ الخط -
يبدو أنه ليس يسيراً أن يتحول حزب ما إلى تبني الديمقراطية، وأن يدافع عنها بمبدئية خارج قيود الأيديولوجيا، وبعيداً عن منطق الحسابات والمناكفات السياسوية الضيقة، فقد كشفت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا أن الشعارات الليبرالية التي ترفعها قوى وشخصيات حزبية في تونس مجرد دعاية سمجة، لا تخرج عن الخطابة اللفظية التي لا تغير من الطبيعة الاستبدادية المتأصلة في ممارسات هذه المجموعات وأفكارها.
"ففي بلادنا، يمكن أن يُسمَّى غير المكترث بخرق حقوق الإنسان والمواطن، والصامت على الدوس على الحريات، ليبرالياً"، كما كتب يوماً المفكر عزمي بشارة، فباستثناء أحزاب قليلة (حراك تونس الإرادة والتيار الديمقراطي وحركة النهضة) دانت بوضوح التوجّه الانقلابي لإطاحة النظام السياسي في تركيا، كانت ردود أفعال باقي القوى السياسية تندرج في خانة الصمت الذي يشي بالتأييد، خصوصاً إذا تابعنا تدوينات كثيرين من رموز هذه الأحزاب وقياداتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
وإذا كانت بعض قوى اليسار لا زالت تعتبر لفظة "ليبرالية" شتيمة، وتسخر من مفاهيم حقوق الإنسان والحريات، وتعتبرها ترفا بورجوازيا شكلياً، على الرغم من أنها، ويا للمفارقة، من المستفيدين من نضال المنظمات الحقوقية زمن الاستبداد، فإن المنتسبين شكليا للتيار الليبرالي، أو من سماهم عن حق، عزمي بشارة "المتلبرلين" يمارسون السياسة على نقيض المنظومة الليبرالية تماماً، فبعضهم يؤيد الاستبداد ويبرّر الانقلابات العسكرية، ولا يجد حرجا في أن يمد يده لكل طاغيةٍ، من أجل تحقيق مصالح حزبية ضيقة، فهذا "المتلبرل المستجدّ الذي يجهل، أو يتجاهل أن لا معنى لهذه الكنية، إذا كان حاملها لا يدافع عن الحريات المدنية، والذي لا يعرف من الليبرالية وأصولِها ومبادئِها سوى التعصّب لنمط حياةٍ محدّد لا علاقةَ له بالحرية والتحرّر، ولا يفقه منها سوى العداء للدين، وإن كان العداء ليس من مبادئها، ولا من أصولها التاريخية أو النظرية؟" (عزمي بشارة).

وبمقارنة بين ليبراليي اليوم المزعومين ومفكري الإصلاح في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، يصعقنا الفارق بين الطرفين، فعلى الرغم من أن رواد الإصلاح لم يطلقوا على أنفسهم تسمية ليبراليين، إلا أنهم كانوا الأكثر وعياً والأقرب ممارسةً وفكراً لروح الحرية الحقيقية، على الرغم من أن منهم مشايخ ومفكرين تعلموا تعليماً دينياً، وانخرطوا في "تنظيمات" تضمن الحريات العامة، وتمنع الحكّام من الاستبداد، معتبراً أن الفساد المستشري في الدول الإسلامية إنما هو نتيجة الاستبداد، لأن "إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام"، وهو ما ذهب إليه ابن أبي الضياف في كتابه "الإتحاف"، أن الممالك "لا تكون على نهج الاستقامة، إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة"، و"الدولة المقيدة بقانون طالبة لما لها من الحقوق الملكية، ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية". ألم يجعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من الحرية أحد مقاصد الشريعة، وقسمها الى حريتين، فكرية وعملية، مؤكّدا في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" أن الحرية مبنيةٌ على مقصد المساواة التي يلزم منها، ويتفرّع استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم، بل إنه مقصد أصلي من مقاصدها (الشريعة)، وذلك هو المراد بالحرية". ومن هنا، يمكن القول إن الدعوة إلى احترام الحريات والدفاع عن منظومة الحقوق بالمصطلح المعاصر كان مما يشغل رواد الإصلاح في تونس (وفي المنطقة العربية عموماً) بعيداً عن الشعارات، وتسويق فكرة أن الليبرالية ليست سوى نمطٍ محدّد من الممارسات، قد لا ينضبط للأخلاقيات العامة للمجتمع.
فمن حيث المبدأ، ومتى احتكمنا بوضوح للنظرية "لا تصح ليبرالية من دون دفاع عن الحريات المدنية في وجه تقييد الدولة لها" (عزمي بشارة)، كما لا يمكن توصيف مؤيدي الانقلابات وداعمي عنف الأنظمة الاستبدادية بأنهم ليبراليون، وإن تمسحوا بأعتاب اللقب، وحاولوا أن يمنحوا أنفسهم شهادات التقدير والاعتراف من الأنظمة الرسمية، لأن هذه الفكرة في أساسها ممارسة ومواقف، أكثر مما هي تصورات نظرية، معزولة عن سياقاتها التاريخية. وحينها تصبح التسمية "ليست دليلاً على فقر ثقافي وسياسي فقط، بل هي نوع من التواطؤ الموصوف أعلاه على الكذب"، كما كتب عزمي بشارة.
مشكلة من يطلقون على أنفسهم ليبراليين في تونس أنهم يمارسون الدجل الفكري، ويكتفون بمجرد التلاعب اللفظي، بعيداً عن اتخاذ المواقف الحقيقية التي تجعل صاحبها مستحقاً صفة الحرية، مدافعا عنها، ملتزماً بها. وجاء الانقلاب التركي الفاشل ليكشف عورات كثيرين من هؤلاء، تماما كما حصل إثر الانقلاب المصري الوالغ في الدم، فقد جعلوا من خصومتهم التيار الديني أساساً يبرّرون به كل انتهاكٍ للحريات، وكل تمرّد على الشرعية الانتخابية، وهو ما يضعهم في خانة ذوي الفكر الاستبدادي، أو هم بالأحرى مشاريع طغاة صغار يتحينون الفرصة، للوصول الى السلطة، والعصف بكل من يخالفهم.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.