03 أكتوبر 2024
"نداء تونس" والهروب إلى الأمام
عندما كانت الحملة الانتخابية في تونس في أوجها، في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، تحدث الرئيس الباجي قائد السبسي عن برنامج تنموي شامل، أعده حزبه "نداء تونس"، سينهض بالبلاد في حالة فوزه هو وحزبه ووصوله إلى السلطة. كانت طريقة الرئيس المعتادة في الحديث، والتي تجمع بين الدعابة والجدية عبرت عن هذا البرنامج المستقبلي بالقول "لقد أعد خبراء حزبنا برنامجا "يدوّخ"، قالها هكذا بلفظة دارجة، بما يعني مجازا أنه برنامج عظيم يثير الإعجاب والدهشة.
حصل "نداء تونس" على ما يريد، ومنحه الجمهور الناخب أصواتا كافية، لينال الرئاسات الثلاث (الجمهورية ومجلس النواب والحكومة)، وجاءت الحكومة الأولى برئاسة الحبيب الصيد، وانشغلت بالانقسامات الحادّة التي طغت على الحزب، وأفضت الى إطاحة الرجل، وصعود يوسف الشاهد بعده الى المنصب التنفيذي الأهم في البلاد. اليوم وبعد مرور سنوات أربع على وصول "نداء تونس" إلى الحكم، مازال الناس في انتظار تحقّق البرنامج الموعود.
المثير أن الأزمات تصاعدت في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مع تهاوي قيمة الدينار التونسي في سوق الصرف، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، في غياب وضوح الرؤية وانعدام القدرة على حل المشكلات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد، مع عجز واضح في محاربة الفساد، الأمر الذي انعكس على مجال التشغيل وتحوّل السياسات العامة نحو التقشّف والضغط على المواطن، من خلال التوجه نحو تخلي الدولة تدريجيا عن وظيفتها الاجتماعية، وتراجع دورها التعديلي في المجال الاقتصادي، مع غياب منوال للتنمية، يناسب المرحلة، ويُحدث فرصا للنمو والتطور.
العجيب أنه، في ظل الفشل الاقتصادي وعجز مؤسسات الدولة عن أداء دورها بنجاعة، تحوّلت سياسات الحزب الحاكم إلى عبء إضافي، يراكم المشكلات، بل ويختلقها اختلاقا، عوضا عن حلها. فمن ناحيةٍ، انعكس الخلاف الجوهري في "نداء تونس" بين شقوقه المختلفة على عمل النواب والوزراء المحسوبين عليه الذين انشغلوا بتكتلاتهم وصراعاتهم لأجل ضمان البقاء في مناصبهم، فيما انحدر مستوى الأداء الحكومي العام إلى ما دون الصفر. وفوق هذا جاءت المبادرات التي تقدم بها رئيس الجمهورية لتصب مزيدا من الزيت على نار الخلافات السياسية المتأجّجة في ظل الوضع الانتقالي الذي تعيشه تونس، فقد فشل مشروع المصالحة الاقتصادية
الذي تم طرحه سنة 2016 في حل مشكلات التّهرب الضريبي، وشكّل مدخلا للتسامح مع بعض أساطين الفساد. ومن جهة أخرى، كانت الحرب المفترضة ضد الفاسدين التي أعلن عنها رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، مجرّد حملة دعائية، لم تتجاوز التصريحات الإعلامية، ولم يشعر الرأي العام بأي أثر لها في الواقع، ما حوّلها إلى نكتةٍ يتداولها الناس.
وما راكم مزيدا من التوتر على المشهد السياسي العام توجه رئيس الجمهورية نحو إجراء تعديلاتٍ في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، وكأنما يعمد إلى نوع من سياسة الهروب إلى الأمام، فالبلد الذي يعاني مخلفات التحديث القسري سنوات الاستبداد، واستمرار أزمة الهوية التي أصبحت مجالا للمزايدة السياسية بعد الثورة، وجد نفسه في أتون صراع بين توجهات مختلفة بشأن طبيعة المقترحات في تقرير اللجنة التي كلفها الرئيس بمراجعة القوانين المنظّمة للأسرة وللحريات الشخصية، ما جعل البلاد مسرحا لمظاهراتٍ، نظمتها جهات مختلفة، كان ينبغي أن تتحد من أجل إيجاد بدائل اقتصادية واجتماعية لحل الأزمة المتصاعدة، بشكلٍ يدعو إلى الاستغراب.
عجز حزب نداء تونس في مواقعه السلطوية المختلفة عن تنفيذ الوعود التي جاء محمّلا بها، وروّجتها وسائل الدعاية التابعة له طوال الحملة الانتخابية الماضية. ولأن هذا الفشل في المجال الاقتصادي والاجتماعي وغياب برامج واضحة، كان الرئيس السبسي قد تحدّث عنها، بوصفها مصدرا للإعجاب والفخر، جعل "نداء تونس" غير قادر على العودة بقوة في الانتخابات المقبلة، خصوصا بعد انكشاف حاضنته الشعبية في الانتخابات البلدية، يبدو أنه اختار سبيلا آخر للتحشيد القائم على أساس أجندات ثقافية وهووية، من أجل تقديم نفسه حاميا للنمط المجتمعي، في مواجهة الخصوم السياسيين الرجعيين. ولهذه التعبئة خطورتها، لما ستؤدي إليه من انقسام اجتماعي غير محمود، ولا يخدم البلاد في هذه المرحلة. وما يثير السخرية أن يعلن معهد الدراسات الإستراتيجية، التابع لرئاسة الجمهورية، عن ندوة لحل مشكلات تونس الاقتصادية والاجتماعية في ستة أشهر (هكذا). وعلى الرغم من تراجعه عن هذا العنوان الدعائي الذي يليق بالصحف الصفراء، تحت ضغط الرأي العام وسخرية مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الأمر يكشف عن مدى استخفاف بعض السياسيين النافذين في الدولة التونسية بالرأي العام، وتوجههم نحو الأسلوب الدعائي، أكثر من رغبتهم في العمل الجاد والمؤثر على المديين، المتوسط والبعيد. صدق الرئيس، عندما أعلن أن برنامج حزبه "يدوّخ"، لأن الرأي العام الشعبي شعر فعلا بالغثيان (وهو المعنى الفعلي للفظ) من مخرجات السياسات الرسمية الفاشلة لحزب نداء تونس.
حصل "نداء تونس" على ما يريد، ومنحه الجمهور الناخب أصواتا كافية، لينال الرئاسات الثلاث (الجمهورية ومجلس النواب والحكومة)، وجاءت الحكومة الأولى برئاسة الحبيب الصيد، وانشغلت بالانقسامات الحادّة التي طغت على الحزب، وأفضت الى إطاحة الرجل، وصعود يوسف الشاهد بعده الى المنصب التنفيذي الأهم في البلاد. اليوم وبعد مرور سنوات أربع على وصول "نداء تونس" إلى الحكم، مازال الناس في انتظار تحقّق البرنامج الموعود.
المثير أن الأزمات تصاعدت في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مع تهاوي قيمة الدينار التونسي في سوق الصرف، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، في غياب وضوح الرؤية وانعدام القدرة على حل المشكلات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد، مع عجز واضح في محاربة الفساد، الأمر الذي انعكس على مجال التشغيل وتحوّل السياسات العامة نحو التقشّف والضغط على المواطن، من خلال التوجه نحو تخلي الدولة تدريجيا عن وظيفتها الاجتماعية، وتراجع دورها التعديلي في المجال الاقتصادي، مع غياب منوال للتنمية، يناسب المرحلة، ويُحدث فرصا للنمو والتطور.
العجيب أنه، في ظل الفشل الاقتصادي وعجز مؤسسات الدولة عن أداء دورها بنجاعة، تحوّلت سياسات الحزب الحاكم إلى عبء إضافي، يراكم المشكلات، بل ويختلقها اختلاقا، عوضا عن حلها. فمن ناحيةٍ، انعكس الخلاف الجوهري في "نداء تونس" بين شقوقه المختلفة على عمل النواب والوزراء المحسوبين عليه الذين انشغلوا بتكتلاتهم وصراعاتهم لأجل ضمان البقاء في مناصبهم، فيما انحدر مستوى الأداء الحكومي العام إلى ما دون الصفر. وفوق هذا جاءت المبادرات التي تقدم بها رئيس الجمهورية لتصب مزيدا من الزيت على نار الخلافات السياسية المتأجّجة في ظل الوضع الانتقالي الذي تعيشه تونس، فقد فشل مشروع المصالحة الاقتصادية
وما راكم مزيدا من التوتر على المشهد السياسي العام توجه رئيس الجمهورية نحو إجراء تعديلاتٍ في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، وكأنما يعمد إلى نوع من سياسة الهروب إلى الأمام، فالبلد الذي يعاني مخلفات التحديث القسري سنوات الاستبداد، واستمرار أزمة الهوية التي أصبحت مجالا للمزايدة السياسية بعد الثورة، وجد نفسه في أتون صراع بين توجهات مختلفة بشأن طبيعة المقترحات في تقرير اللجنة التي كلفها الرئيس بمراجعة القوانين المنظّمة للأسرة وللحريات الشخصية، ما جعل البلاد مسرحا لمظاهراتٍ، نظمتها جهات مختلفة، كان ينبغي أن تتحد من أجل إيجاد بدائل اقتصادية واجتماعية لحل الأزمة المتصاعدة، بشكلٍ يدعو إلى الاستغراب.
عجز حزب نداء تونس في مواقعه السلطوية المختلفة عن تنفيذ الوعود التي جاء محمّلا بها، وروّجتها وسائل الدعاية التابعة له طوال الحملة الانتخابية الماضية. ولأن هذا الفشل في المجال الاقتصادي والاجتماعي وغياب برامج واضحة، كان الرئيس السبسي قد تحدّث عنها، بوصفها مصدرا للإعجاب والفخر، جعل "نداء تونس" غير قادر على العودة بقوة في الانتخابات المقبلة، خصوصا بعد انكشاف حاضنته الشعبية في الانتخابات البلدية، يبدو أنه اختار سبيلا آخر للتحشيد القائم على أساس أجندات ثقافية وهووية، من أجل تقديم نفسه حاميا للنمط المجتمعي، في مواجهة الخصوم السياسيين الرجعيين. ولهذه التعبئة خطورتها، لما ستؤدي إليه من انقسام اجتماعي غير محمود، ولا يخدم البلاد في هذه المرحلة. وما يثير السخرية أن يعلن معهد الدراسات الإستراتيجية، التابع لرئاسة الجمهورية، عن ندوة لحل مشكلات تونس الاقتصادية والاجتماعية في ستة أشهر (هكذا). وعلى الرغم من تراجعه عن هذا العنوان الدعائي الذي يليق بالصحف الصفراء، تحت ضغط الرأي العام وسخرية مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الأمر يكشف عن مدى استخفاف بعض السياسيين النافذين في الدولة التونسية بالرأي العام، وتوجههم نحو الأسلوب الدعائي، أكثر من رغبتهم في العمل الجاد والمؤثر على المديين، المتوسط والبعيد. صدق الرئيس، عندما أعلن أن برنامج حزبه "يدوّخ"، لأن الرأي العام الشعبي شعر فعلا بالغثيان (وهو المعنى الفعلي للفظ) من مخرجات السياسات الرسمية الفاشلة لحزب نداء تونس.