تعديلات دستورية بالمصالح والرشاوى والتضييق

16 ابريل 2019
+ الخط -
من حصار الميادين إلى حجب المواقع الإلكترونية، وصولاً إلى التضييق والاعتقال، تستمر السلطوية في مصر، في ذلك كله، حتى في استحقاق الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أوجدته السلطة، ليعلن الشعب نظرياً، قبوله أو رفضه، فيما عمليا يمثل تمرير التعديلات مشهدا للإذعان، ليس فيه ملامح لحرية التعبير أو الاختيار. وهو أيضا تجسيد لفرض سلطة الأمر الواقع، بغرض استدامة عملية هيمنة مطلقة، عنوانها الرئيسي حكم الفرد، حتى وإن تجمل بعضهم بأن التعديلات تضمن بقاء الدولة والحفاظ على استقرارها وقوتها، واستكمال خطط التنمية، وغيرها من مصطلحات تصاحب عمل كل نظام على البقاء في الحكم. 
يبرز الواقع أن المصالح الاقتصادية تلعب دورا رئيسيا في تمرير التعديلات الدستورية، هي انعكاس لسيطرة فئات وطبقات اجتماعية على الحكم والاقتصاد والثروات، مستخدمةً كل أدوات القمع والتخويف، بجانب تزييف الوعي، لتبقى على مكاسبها المرتبطة باستمرار النظام، ولذلك تسانده بقوة.
لا يمرر المشهد بالتضييق والدعاية وحسب، فهناك رشاوى، بعضها اقتصادي في شكل منح وعلاوات وترقيات، جاءت لتحاول معالجة الشروخ في الكتلة الاجتماعية التي كان جزء منها يؤيد سياسات النظام، لتستفيق على الأزمة الاجتماعية المتسعة يوما بعد يوم. وهنا تظهر 
العلاقات الاقتصادية بين الدولة وموظفيها بوصفها إحدى أدوات الإخضاع والهيمنة والاستمالة والاستقطاب، لأن العقوبات الإدارية غير كافية في إخضاع الموظفين وحشدهم في التصويت. ولذلك استخدمت الدولة بند الأجور حوافز تسهل عمليات الهيمنة السياسية وكسب التأييد والولاء.
وهناك أيضا مصالح سياسية متنوعة، فالتعديلات تتضمن بندا بإنشاء غرفة برلمانية ثانية، ستستوعب بعض النخب التي يلحظ تململها من التهميش الذي فرضته السلطة عليها، على الرغم من ولائه لها، بجانب وعودٍ بمنح النساء والشباب والأقباط نِسبا في البرلمان المقبل، وهو ما ينعكس في دعاية حملات طرق الأبواب والأنشطة الدعائية التي تمارسها منظمات نسوية تابعة للدولة، أو مجموعات شبابية كتنسيقية شباب الأحزاب، وكذلك توجهاتٌ كنسية تستغل حالات التميز الديني والحوادث الطائفية ومشكلات الأقباط في حشدهم للتأييد، مصورين أن أي معارضةٍ للنظام هي اصطفاف مع تيار الإسلام السياسي، والإخوان المسلمين تحديدا، وما يحمله هؤلاء من أفكار تهدّد أوضاع الأقباط وتزيدها تعقيدا.
يتضح أن عملية تعديل الدستور، بداية من طرحها وترويجها وحتى إقرارها مستقبلا، تتسم بالقسرية، فالإعلان ليس تعبيراً عن إرادة شعبية، ولكن يراد أن يصوّر بهذه الصورة عند إقراره من خلال الاستفتاء، فأعضاء مجلس النواب الذين مرّروا التعديلات يريدون تحقيق فوز سهل مستقبلا في الانتخابات البرلمانية المقبلة، عبر اختيارهم ضمن قوائم السلطة التي لا بد أن تستمر، لكي يضمنوا وجودهم في البرلمان المقبل، ويحققوا مصالحهم ومصالح من موّل حملاتهم أو من أوصى بمرورهم السهل إلى البرلمان، حتى الذين تغيبوا عن جلسة التصويت على مقترح التعديلات الدستورية في الجلسة العامة للبرلمان، حرصوا على إصدار بيانٍ لاحقا لتأييد مقترحات التعديلات الدستورية، حتى لا يغضب منهم من جاءوا بهم إلى البرلمان.
لم يعكر صفو هذا المشهد السلطوى الذي يشبه اللعب المنفرد سوى ما سمّي حوارا مجتمعيا، شاركت فيه شخصيات عامة وأحزاب فى جلسات استماع في مجلس النواب، لكن هذا الحوار لم تعلن تفاصيله في أي وسيلة إعلامية مصرية، وكأنه كان همسا مشينا. ولكن سرعان ما تكشف أن "مشهد الحوار" بشأن التعديلات الدستورية كان ضمن ثلاث قضايا رئيسية ستطرح في زيارة رسمية للرئيس عبدالفتاح السيسي إلى واشنطن، بجانب قانون الجمعيات الأهلية الذي تم تغيره قبل الزيارة بيومين، ومسألة تسهيل عمل الأجانب في الجمعيات الأهلية والحقوقية،
 وتحفيز أنشطة المستثمرين الأجانب في السوق المصري.
وإلى ذلك، يستمر مشهد التأييد الكاسح، والعزف الفردي، والنغمة الواحدة التي لم تشأ السلطة كسرها ولو شكليا، فطلب التظاهر الذي قدمته أحزاب الحركة المدنية لإعلان موقفها رفضته الحكومة، كما تم التضييق على التحرّكات المحدودة للمعارضين، وصلت إلى حدود إعاقتها بأساليب عفا عليها الزمن، كتعطيل مصاعد أحد العقارات التي كانت ستقيم بها الحركة ندوة محدودة الحضور. بينما شهدت شوارع القاهرة وميادينها الرئيسية، صباحي يومين متتاليين، غابات من لافتات تأييد للتعديلات الدستورية، أرغم فيها أغلب أصحاب المنشآت التجارية على دفع تكاليفها وإعلان تأييدهم قسريا، في مشهدٍ يحاول الإيحاء بأن هناك تأييدا شعبيا للتعديلات الدستورية، أو المستهدف منها، وهو تمديد فترات الحكم، وكذلك الإيحاء لهؤلاء أن سلامتهم واستمرار أنشطتهم مرتبط بتأييد السلطة، وأنه لا مكان في السوق/ الشارع لمن يتبنى غير هذا الموقف.
ومن فضاء السوق إلى الفضاء العام، تم إجهاض بداية تشكل حركة معارضة التعديلات الدستورية، عبر القبض على شباب ممن حاولوا تشكيل حراكٍ معارضٍ للتعديلات، خصوصاً من أعضاء حزب الدستور، ومن تضييق فضاء الشوارع الذي تم تأميمه لصالح لافتات التأييد وحركاته، ومنعت فيها الأصوات المعارضة، وصلت السلطة إلى عرقلة الفضاء الإلكتروني الذي يعبر فيه المصريون، بشكل نسبي، عن معارضتهم النظام، حظرت الدولة الموقع الإلكتروني لحملة "باطل"، والذي أطلق للتوقيع على وثيقةٍ ترفض تعديل الدستور. لم يستمر الموقع سوى 13 ساعة، وصلت فيها التوقعات إلى نحو 60 ألف توقيع، ما يدل على أن هناك أصواتا تريد التعبير عن رفضها التعديلات الدستورية، وما تمثله من استمرار نمط الحكم القائم الذي يتناقض مع أبسط المطالب التي رفعها المصريون عشرات السنين بشأن التداول السلمي للسلطة، ووجود دستور يضمن الحقوق والحريات العامة.
مشهد تعديلات الدستور صورة أكثر وضوحا عن سمات النظام في مصر وخصائصه، بما فيها من أدوات للإخضاع والهيمنة والاستمالة والحصار، وهو أيضا صورة على حالة قوى المعارضة، ورغبة المصريين في التعبير المحتجز حتى فى الفضاء الإلكتروني.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".