الهرولة العربية للتطبيع مع إسرائيل

23 يوليو 2017
تظاهرة مغربية مناهضة للتطبيع، 12 مارس 2012 (فرانس برس)
+ الخط -
المتابع لسير العلاقات العربية الإسرائيلية منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978، وصولا إلى كتابة هذه السطور، وما يتم ترديده حول "صفقة القرن"، يلحظ بصورة ملفتة أن فكرة التطبيع لم تطرح جدياً، بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، إلا في أعقاب الاتفاقات الفلسطينية والعربية مع إسرائيل.

يهدف هذا التحليل لتقويم أبعاد التطبيع الحاصل بين بعض البلدان العربية وإسرائيل، والمدى الذي بلغه على المستويين الثنائي والإقليمي، وتطوّر آليّاته، وجهود الحركة الشعبية لمناهضته، والتحديات التي تواجهها هذه الحركة.

أهداف التطبيع... إسرائيلياً
إن طبيعة التسوية التي تفرضها إسرائيل على العرب تتجاوز إقامة علاقات بين الجانبين، أو حتى إقامة نوع من التعاون بين دول المنطقة، إنه إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية، وشخصيتها القومية، وتحويلها إلى كم من الأفراد في آلية اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة، إلى كمٍّ من البشر، لا أُمة تمتلك موروثها الثقافي، وتطمح لتنمية مجتمعاتها، والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية.

بمعنى آخر، فإن التطبيع في المفهوم الإسرائيلي هو تكريس الحاضر، والانطلاق منه، وتجاهل الماضي والتاريخ والتراث والحضارة، لا سيما أن بعضهم يعرّف التطبيع بأنه قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل، وسينعكس هذا التطبيع حتما في المناهج المدرسية الرسمية، التي ستكون ملزمة بإجراء التحويرات فيها، بما لا يتناقض مع الاتفاقات المعقودة.

إن التطبيع يستهدف المناهج المدرسية التي تخص الأجيال المعاصرة واللاحقة، لتنسجم مع الاتفاقات السياسية التي كرّست الاعتراف بالآخر على حساب جزء من الذات العربية في فلسطين، وبذلك يضعف منهج التربية الرسمي مناعة الأجيال القادمة تجاه عدوها التاريخي، ويصادر إرادتها في إنجاز ما عجزت أجيالها السابقة عن إنجازه من أهداف التحرر.

وفي ضوء أن التطبيع يمثل الدعامة الرئيسية للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر استقراراً من أي ترتيبات أمنية كالمناطق المنزوعة السلاح، ووضع قوات دولية وغيرها من الترتيبات الأمنية.
فالتطبيع يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد، لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها القومي، فتصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع.
وبالتالي فإن الإصرار الإسرائيلي على التطبيع، ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه والشخصية القومية.

ولتطبيع كما تنطوي عليه المخططات الإسرائيلية، يهدف في التطبيق العملي إلى؛ أولاً: إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، عبر تزييف الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت إسرائيل في الوطن العربي.
ثانياً: التوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية لإسرائيل، بما في ذلك الوارد منها في بعض الكتب المقدسة كالقرآن الكريم، حيث كثفت إسرائيل جهودها العلمية لرصد وتسجيل وتحليل المفاهيم الإسلامية المؤثرة في الصراع مع "الصهيونية" كأحد أبرز وجوه العناصر البنائية للذهنية العربية.
ثالثاً: أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسس للمشروع الصهيوني الموجه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى داخل كل بلد عربي عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، ومحاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى.
رابعاً: تدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية، ولهذا فهو في نظر خبراء إسرائيل وباحثيها وقادتها العنصر الأهم والأكثر إلحاحاً في فرض الهيمنة "الصهيونية" على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائياً تعبيراً عن الهزيمة الحضارية والانهيار القومي والانتحار الجماعي.

شواهد ومؤشرات
يمكن الإشارة للعديد من الشواهد التي تؤكد سريان التطبيع لبعض النخب السياسية، فالتطبيع بين العرب والإسرائيليين يستهدف مفردات قاموس خطابهم السياسي والثقافي، فبتنا نتحدث عن إعادة الانتشار، بدلاً من الانسحاب أو جلاء الاحتلال، ووقف الاستيطان بدلا من إزالته، ولم نعد نستخدم كلمة العدو الصهيوني، وتردد ألسنتنا دون وعي، المسميات الإسرائيلية للأماكن العربية، ومن يدري أي صفات بدل "العدو" سنطلقها على إسرائيل في وقت لاحق.
ويلاحظ على الخطاب الرسمي والثقافي العربي أنه يتسم بنبرة استعطافية توحي وكأن الطرف الإسرائيلي هو الثابت وصاحب الحق، ونحن الطارئون، كما يختصر خطابنا حقوقنا في حدود الضفة والقطاع كحد أقصى، متجاهلاً تماماً حقنا التاريخي في فلسطين كاملة.

كما أن التطبيع يستهدف إعادة صياغة مفاهيمنا ومناهج تفكيرنا، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وإعادة النظر في الكثير من قضايا تاريخنا العربي، وإعادة قراءة، وربما كتابة، تاريخنا الماضي والمعاصر، فنعيد النظر في موقفنا من الحركة الصهيونية، والطبيعة الاستعمارية العدوانية لإسرائيل، ودور الغرب الاستعماري، فيما وصل إليه حال أمتنا من التخلف والتجزئة ونهب الثروات.

لنلاحظ مثلاً ما جرى للثقافة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو، فقد تراجعت عملية الإبداع من حيث الإنتاج، في المجالات الأدبية، الشعر، الرواية، المسرح...الخ، للدرجة التي توقف فيها إنتاج الأغاني الثورية التي تمجد الوطن والنضال، وتحفز روح المقاومة.

لقد هدف التطبيع في المحصلة لغزو وتدمير قلعة الدفاع عن روح الأمة وحراس أحلامها، وحملة رسالتها، وهم المثقفون، والمفكرون، وكسبهم، إن أمكن، من خلال الحوار معهم، وإقناعهم بصورة "الإسرائيلي الطيب"، الذي يؤمن بالتعايش مع العرب، ودعوة المثقفين للاطلاع على التجربة الإسرائيلية، للانبهار بالمجتمع المتطور، عبر دعوات للاستراحة في منتجعات سياحية، ومنح للتفرغ الإبداعي، وتبادل الزيارات لاحقاً بين المثقفين من الجانبين، والنتيجة، تسويق إسرائيل ثقافياً للعالم العربي.

أسباب التعثر
نستطيع وضع جملة من العوامل أدت إلى كبح جماح التطبيع مع إسرائيل، أبرزها:
أ- التأثير الشعبي الممتد من جاكرتا إلى المغرب، والنشاط القوي للجاليات العربية والإسلامية في الغرب، التي تمكنت من كسب أنصار جدد للقضية الفلسطينية، وإعادة الزخم لمسألة مقاومة التطبيع، بوصفها إحدى وسائل مكافحة إسرائيل سلمياً، والآلية المتاحة الفعالة في غياب أخريات لا تلبي طموحات الناشطين الفاعلين.
ب- التأثير الإسرائيلي، الناتج عن صورة الرعب التي ظهرت بها إسرائيل، وهي ذاتها التي شجعت على مكافحة التطبيع نفسه، ولم يكن ممكناً لها أن تمحوها، وقد امتدت صورها عبر الإعلام الفضائي والإنترنت في العالم كله، بما لم يدع أي مجال لدعوى التطبيع، ويضاف لذلك نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي خلفت الأكثر تشدداً وصلفاً بما لا يوفر أي أرضية للمطبعين العرب.
ج- تنامي التأييد للمقاومة الفلسطينية بوصفها آلية ناجعة للتصدي للعدوان الإسرائيلي، وتراجع مشروع التسوية الفلسطيني، وتواري عرَّابيه، وتبعثر ملف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، ولا عجب في أن تأييد المقاومة أكَّده أكثر من تقرير غربي واستطلاعات فلسطينية.

تأسيساً على ما تقدم؛ من الممكن قراءة المشهد على أن نمط التطبيع التدريجي السابق لم يعد متاحاً في ظل الانقسامين العربي والفلسطيني، وتشدد الحكم الإسرائيلي أكثر وأكثر، ورغبته بحالة فلسطينية ضعيفة، يستمد أحد طرفيها مشروعيته من عدائه لأعداء الدولة الصهيونية.
وفي غياب حلٍّ سياسي، لا يمكن الحديث في هذه اللحظة عن تطبيع، حتى لو رغب عرَّابوه في أن يكون تدريجياً وبطيئاً، في ظل ما يشاع ويتردد عن تنامي العلاقات التطبيعية بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي لا تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية، كالسعودية والإمارات.
وإذ غدا الإعلام وسيلة جدّ ناجعة لكشف ممارسات التطبيع؛ فإن حالة أخرى من الانقسام مفضية إلى انكشاف المطبعين، ما جعل مسألة التطبيع تتراجع أكثر، وجعل مهمة مخترقي حالة الجمود في العلاقات العربية الإسرائيلية عسيرة جداً، لاسيما والأحداق متسعة لأي اختراق يحصل هنا أو هناك.

في المقابل، هناك من يؤيد التطبيع دون أن يكون مبنياً على خلفية سياسية، أو بما يخدم مصلحة الأمة، بل يؤيد هؤلاء التطبيع لأنهم يعتقدون أنهم بموقفهم هذا سيرضى عنهم النظام الذي ينتمون إليه، أو يكون نكاية بخصمهم السياسي المحلي الذي هو دوماً ضد إسرائيل، وبالتالي يطبقون مقولة "عدو عدوي صديقي".

ومنهم من يساند التطبيع لأنهم يأملون جني أرباح اقتصادية بالتعامل مع إسرائيل، وهؤلاء من أصحاب رؤوس الأموال وسماسرة الشركات العالمية الكبرى الذين لا يهمهم إلا الربح المادي فقط، خصوصا أن السفارات أو مكاتب الاتصال الإسرائيلية مستعدة لتقديم إغراءات مالية كتذاكر سفر أو منح مالية ودعوات يسيل لها لعاب ضعاف النفوس ومن يتطلع للشهرة.
ويمكن أن نضيف نوعاً آخر من المطبعين وهم المتطرفون من الأقليات العرقية أو الدينية الذين يجدون في إسرائيل حليفاً لهم ضد ما يعتبرونه الهيمنة العربية أو الإسلامية.

أخيراً... من المهم الإشارة لمدى تصاعد الحالة الشعبية الرافضة على امتداد العالم العربي في "فرملة" اندفاعات التطبيع، بل في إعادة تشكيل مفاهيم جديدة للمواجهة من خلال أطر غير رسمية وتجمّعات شعبية، رغم أن مستويات التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وصلت إلى قيام بعضها أو مؤسساتها أو أشخاصها بتنفيذ مشاريع تعاونية ومبادلات تجارية واقتصادية مع نظرائهم الإسرائيليين.

(رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الأمة/غزة)




المساهمون