بلغ اتفاق "إعلان المبادئ" الفلسطيني - الإسرائيلي، المعروف باسم "اتفاق أوسلو" الشهر الماضي عامه الرابع والعشرين منذ توقيعه في 13 سبتمبر/ أيلول من عام 1993 في حديقة البيت الأبيض بالعاصمة الأميركية واشنطن، من طرف رئيس دائرة الشؤون القومية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية، محمود عباس، الرئيس الفلسطيني حاليا، ووزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، شمعون بيريز، والذي توفي في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
وبموجب إعلان المبادئ، أو اتفاق أوسلو، اتفقت حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، على وضع حد لعقود من المواجهات والصراع، والاعتراف المتبادل، وتحقيق تسوية سلمية عادلة وشاملة ودائمة ومصالحة تاريخية من خلال عملية سلمية لا تتعدى المرحلة الانتقالية منها خمس سنوات، تبدأ بتشكيل سلطة فلسطينية انتقالية ذاتية الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تسوية نهائية مبنية على أساس قراري مجلس الأمن رقم 242 و338.
وبموجب نصوص الاتفاق تصل المفاوضات بعد انقضاء ثلاث سنوات لبحث قضايا الوضع النهائي بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، وما يجده الطرفان من قضايا أخرى ذات اهتمام مشترك. وجاء في بنود الاتفاق أن مرحلة الخمس سنوات الانتقالية تبدأ حال الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومنطقة أريحا. وتنطلق مفاوضات الوضع النهائي في موعد أقصاه بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
وعلى الرغم مما أثاره اتفاق أوسلو من نقاش وجدل داخل البيت الفلسطيني منذ مولده، بين من رأى فيه إنجازاً تاريخياً، أو على أقل تقدير خطوة على طريق تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، وبين من رأى فيه "خيانة"، أو على الأقل، انحرافاً عن أهداف المشروع الوطني الفلسطيني، إلا أن الذكرى الـ24 لتوقيع الاتفاق، مرت في صمت مُريب، ذلك أن كثيراً من الفلسطينيين والعرب مؤيدي الاتفاق باتوا يتجنبون الاحتفاء به، أو يخجلون من الحديث عنه، أو لا يملكون الطاقة "الأخلاقية" للدفاع عنه، بل إن طيفا واسعا من جوقة أوسلو، صارت لا تتوانى عن انتقاد الاتفاق، لا من باب الاعتراف بالفشل، ولكن من باب إلقاء اللوم على إسرائيل بوصفها من تهرب وتنصل من استحقاقات أوسلو. ومع ذلك لا يزال بين هؤلاء من يدافعون عن "أوسلو" بوصفه إنجازا "تاريخيا" حقق للفلسطينيين إقامة سلطة وطنية، بمؤسسات تشريعية وتنفيذية وإدارية، وبعض رموز السيادة، مثل العلم وجواز السفر، والهوية الشخصية... إلخ. كذلك لا ينسى هؤلاء التذكير بفضل "أوسلو" في عودة عدة آلاف من الفلسطينيين الى أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما إسرائيل فيبدو أنها غير معنية بذكر أوسلو بعد مرور 24 عاماً على توقيعه، أولا لأن اليمين الإسرائيلي الحاكم، وفي مقدمته رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم يكن يوما من مؤيدي أوسلو، بل يرى فيه تراجعا أو تنازلا استحق اغتيال مهندسه اسحق رابين. ثم إن المستوى الإسرائيلي، لا يرغب في نبش أوسلو من قبره، وهو الذي عمل منذ سنوات على دفنه، بخلق واقع إحلالي واستيطاني وتهويدي، يجعل من بنود أوسلو ومقتضياته، أثراً بعد عين. ولا يطيب للقيادات الإسرائيلية ذكر أوسلو إلا عندما يتعلق الأمر بالواجبات المستحقة على الجانب الفلسطيني، بموجب الاتفاق، لاسيما لجهة التنسيق الأمني، ووقف التحريض في وسائل الإعلام الفلسطيني.
وفي المقابل يصر معارضو أوسلو، ورافضوه من الفلسطينيين على التذكير به، بوصفه النكبة الثالثة التي حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته منذ نكبة 1948، ونكسة 1967. ويرى هؤلاء أن اتفاق أوسلو كان بالفعل كارثة حلت بالقضية الفلسطينية، لا سيما أنه لم يكن خيار الشعب الفلسطيني، ولم تعرض بنوده أو مقتضياته على الاستفتاء الشعبي، فضلاً عن عدم عرضه على المؤسسات التشريعية، التي وُلدت بموجبه. وقد تكون هذه الولادة غير الطبيعية لاتفاق أوسلو، السبب الأساس في ولادة مخلوق مشوه، فيه من العاهات والعورات أكثر مما فيه من الخصال الحميدة أو الصفات الجميلة.
وبالنظر إلى النتائج الكارثية التي جناها الفلسطينيون من اتفاق أوسلو، تبدو مسألة التنازل عن نحو 78 بالمائة من فلسطين التاريخية، لصالح إسرائيل، ثم الاعتراف بالكيان الصهيوني، كـ"دولة" شرعية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، هي أقسى ما ورد في مواد الاتفاق. وقد رأى بعضهم في هذا الاعتراف أبعد من مجرد التنازل عن الجغرافيا، أو التنازل السياسي، باعتباره في الجوهر، دحضاً للرواية الفلسطينية التي طالما تمسكت بالحق الفلسطيني الشرعي على كامل التراب الفلسطيني من رأس الناقورة شمالاً إلى النقب جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً، إلى البحر الميت شرقاً. وفي المقابل فإن الاعتراف بالكيان الصهيوني كـ"دولة" على هذا الحيز الجغرافي يعني المصادقة على الرواية الإسرائيلية، والتي لطالما زعمت الحق اليهودي في هذه الأرض.
وإن كان لاتفاق أوسلو أن يحمل صفة "التاريخية" فإن ذلك يتجلى في ناحية وحيدة، تتمثل بالتأسيس لعلاقة "تاريخية" وفريدة، بل وغريبة، بين الاحتلال والضحية، بحيث بات الاحتلال الإسرائيلي الاحتلال الأقل كلفة في التاريخ البشري، وبات الشعب الواقع تحت الاحتلال يدفع الضرائب للمحتل، ويتحمل جزءا كبيرا من فاتورة الاحتلال، الى جانب أداء مهام نيابة عن الاحتلال، لا سيما المهام الأمنية، التي توسعت إلى حدود قمع الحريات العامة، وتكميم الأفواه والأقلام، وإغلاق المؤسسات الصحفية، واعتقال أصحاب الرأي المعارض.
وكما جاء اتفاق أوسلو مجحفا بالحق الفلسطيني، فإن نتائجه جاءت كارثية على الفلسطيني في كل تفاصيل حياته من الاقتصاد الذي رهنته أوسلو وملحقاته للاحتلال، إلى الأمن الذي بات العصا "الوطنية" الضاربة نيابة عن الاحتلال وبتكليف منه، مرورا بكل مناحي الحياة. بعد أربعة وعشرين عاماً من "وهم السلام" لم يجن الفلسطيني سوى السراب، فلا تحررت الأرض، بل تقطعت أوصال الوطن، بمئات الحواجز والجدران، وتوغل الاستيطان في أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة، وتغول الاحتلال في تهويد القدس، وتاهت غزة بين انقسام واقتتال، ولا تحرر الإنسان، الذي وجد نفسه بعد 24 سنة من أوسلو رهين محبس الاحتلال، ومحبس لقمة العيش، فضلاً عن مخالب طبقة سياسة واقتصادية وأمنية، تداخلت مصالحها، وتقاطعت أجنداتها، حتى صار البعض الفلسطيني، يترحم بعد ظلمها وفسادها على أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر، ولا تحقق القرار الفلسطيني المستقل، بل بات رهين المساعدات الدولية، والتي لا تدفع إلا وهي تملي الشروط والاشتراطات.
(كاتب وأكاديمي فلسطيني)
اقــرأ أيضاً
وبموجب نصوص الاتفاق تصل المفاوضات بعد انقضاء ثلاث سنوات لبحث قضايا الوضع النهائي بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، وما يجده الطرفان من قضايا أخرى ذات اهتمام مشترك. وجاء في بنود الاتفاق أن مرحلة الخمس سنوات الانتقالية تبدأ حال الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومنطقة أريحا. وتنطلق مفاوضات الوضع النهائي في موعد أقصاه بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
وعلى الرغم مما أثاره اتفاق أوسلو من نقاش وجدل داخل البيت الفلسطيني منذ مولده، بين من رأى فيه إنجازاً تاريخياً، أو على أقل تقدير خطوة على طريق تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، وبين من رأى فيه "خيانة"، أو على الأقل، انحرافاً عن أهداف المشروع الوطني الفلسطيني، إلا أن الذكرى الـ24 لتوقيع الاتفاق، مرت في صمت مُريب، ذلك أن كثيراً من الفلسطينيين والعرب مؤيدي الاتفاق باتوا يتجنبون الاحتفاء به، أو يخجلون من الحديث عنه، أو لا يملكون الطاقة "الأخلاقية" للدفاع عنه، بل إن طيفا واسعا من جوقة أوسلو، صارت لا تتوانى عن انتقاد الاتفاق، لا من باب الاعتراف بالفشل، ولكن من باب إلقاء اللوم على إسرائيل بوصفها من تهرب وتنصل من استحقاقات أوسلو. ومع ذلك لا يزال بين هؤلاء من يدافعون عن "أوسلو" بوصفه إنجازا "تاريخيا" حقق للفلسطينيين إقامة سلطة وطنية، بمؤسسات تشريعية وتنفيذية وإدارية، وبعض رموز السيادة، مثل العلم وجواز السفر، والهوية الشخصية... إلخ. كذلك لا ينسى هؤلاء التذكير بفضل "أوسلو" في عودة عدة آلاف من الفلسطينيين الى أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي المقابل يصر معارضو أوسلو، ورافضوه من الفلسطينيين على التذكير به، بوصفه النكبة الثالثة التي حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته منذ نكبة 1948، ونكسة 1967. ويرى هؤلاء أن اتفاق أوسلو كان بالفعل كارثة حلت بالقضية الفلسطينية، لا سيما أنه لم يكن خيار الشعب الفلسطيني، ولم تعرض بنوده أو مقتضياته على الاستفتاء الشعبي، فضلاً عن عدم عرضه على المؤسسات التشريعية، التي وُلدت بموجبه. وقد تكون هذه الولادة غير الطبيعية لاتفاق أوسلو، السبب الأساس في ولادة مخلوق مشوه، فيه من العاهات والعورات أكثر مما فيه من الخصال الحميدة أو الصفات الجميلة.
وبالنظر إلى النتائج الكارثية التي جناها الفلسطينيون من اتفاق أوسلو، تبدو مسألة التنازل عن نحو 78 بالمائة من فلسطين التاريخية، لصالح إسرائيل، ثم الاعتراف بالكيان الصهيوني، كـ"دولة" شرعية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، هي أقسى ما ورد في مواد الاتفاق. وقد رأى بعضهم في هذا الاعتراف أبعد من مجرد التنازل عن الجغرافيا، أو التنازل السياسي، باعتباره في الجوهر، دحضاً للرواية الفلسطينية التي طالما تمسكت بالحق الفلسطيني الشرعي على كامل التراب الفلسطيني من رأس الناقورة شمالاً إلى النقب جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً، إلى البحر الميت شرقاً. وفي المقابل فإن الاعتراف بالكيان الصهيوني كـ"دولة" على هذا الحيز الجغرافي يعني المصادقة على الرواية الإسرائيلية، والتي لطالما زعمت الحق اليهودي في هذه الأرض.
وإن كان لاتفاق أوسلو أن يحمل صفة "التاريخية" فإن ذلك يتجلى في ناحية وحيدة، تتمثل بالتأسيس لعلاقة "تاريخية" وفريدة، بل وغريبة، بين الاحتلال والضحية، بحيث بات الاحتلال الإسرائيلي الاحتلال الأقل كلفة في التاريخ البشري، وبات الشعب الواقع تحت الاحتلال يدفع الضرائب للمحتل، ويتحمل جزءا كبيرا من فاتورة الاحتلال، الى جانب أداء مهام نيابة عن الاحتلال، لا سيما المهام الأمنية، التي توسعت إلى حدود قمع الحريات العامة، وتكميم الأفواه والأقلام، وإغلاق المؤسسات الصحفية، واعتقال أصحاب الرأي المعارض.
وكما جاء اتفاق أوسلو مجحفا بالحق الفلسطيني، فإن نتائجه جاءت كارثية على الفلسطيني في كل تفاصيل حياته من الاقتصاد الذي رهنته أوسلو وملحقاته للاحتلال، إلى الأمن الذي بات العصا "الوطنية" الضاربة نيابة عن الاحتلال وبتكليف منه، مرورا بكل مناحي الحياة. بعد أربعة وعشرين عاماً من "وهم السلام" لم يجن الفلسطيني سوى السراب، فلا تحررت الأرض، بل تقطعت أوصال الوطن، بمئات الحواجز والجدران، وتوغل الاستيطان في أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة، وتغول الاحتلال في تهويد القدس، وتاهت غزة بين انقسام واقتتال، ولا تحرر الإنسان، الذي وجد نفسه بعد 24 سنة من أوسلو رهين محبس الاحتلال، ومحبس لقمة العيش، فضلاً عن مخالب طبقة سياسة واقتصادية وأمنية، تداخلت مصالحها، وتقاطعت أجنداتها، حتى صار البعض الفلسطيني، يترحم بعد ظلمها وفسادها على أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر، ولا تحقق القرار الفلسطيني المستقل، بل بات رهين المساعدات الدولية، والتي لا تدفع إلا وهي تملي الشروط والاشتراطات.
(كاتب وأكاديمي فلسطيني)