عبد المسيح يكشف زيفهم

عبد المسيح يكشف زيفهم

22 ديسمبر 2014
+ الخط -
تناقلت وسائل الإعلام واقعة الحكم على الطفل المصري عبد المسيح عزت، من محافظة بني سويف المصرية (الأكثر فقراً وفق الاحصاءات السكانية) بالحبس لمدة عام في إحدى دور الرعاية، على خلفية "سرقة" أرغفة من الخبز ليستكمل طعامه هو ورفاقه. القضية جرت وقائعها منذ عامين تقريباً، وصدر الحكم فيها منذ أيام، بتبرئة الطفل، بعدما خضع ابن العشر سنوات لمحاكمة، وبعدما تنازل صاحب المخبز عن الدعوى.
قضية، يمكن أن تكون مدخلاً لكشف بؤس النظام الاقتصادي وما يخلفه من كوارث مستمرة، خاصة فيما يتعلق بارتفاع نسب الفقر عموماً، وفي محافظات الصعيد خصوصاً التي تضم 49% ممن يعانون من الفقر المدقع.
يردد المصريون المثل الشائع "محدش بيبات بدون عشا"، أي أن الناس تستطيع تدبير قوت يومها. لكن الآن وبعد تدمير العديد من آليات توفير الغذاء، سقطت عن هذا المثل واقعيته.
ساد منذ انطلاق الثورات العربية، وعي نخبوي انفصل عن قضايا الشعب. كانت الأوتار تثبت حول نغمة تعزف خارج القضايا الرئيسة، حيث اقتصر الصراع بين تنافس ما بين ما هو اسلامي ومدني، ثم ما هو مدني وعسكري... وغاب منطق البحث عن سياسات تمثل مصلحة الناس.
تركت النخب قضايا التغيير الاقتصادي فتركها الشعب. ورجعت فئات اجتماعية تنشد الأمان حتى وإن أيدت السلطة الباطشة. لعل ذلك يفسر حقيقة أن معظم أطراف النزاع السياسي يتفق غالباً على مضمون السلطة ويختلف حول شكلها. هنا، نجد الكثير من النخب "الثائرة"، التي ترى أن الفساد هو خطأ الأنظمة لا أكثر، وأن الأمر لا يتعلق بطبيعة انحياز هذه الأنظمة.
هكذا، كانت نتائج الثورات، تغيير السلطات مع الإبقاء على السياسات ذاتها. ولهذا السبب سنجد مئات الحالات التي تشبه عبد المسيح ورفاقه، التي تعبّر فعلاً عن نمط الاقتصاد السياسي في مصر.
قضية عبد المسيح ليست عابرة، إذ إن دولة تجنّد شرطتها ونيابتها ومحاكمها لمحاكمة وسجن طفلٍ ارتكب "جريمة" الجوع، ليست قضية بسيطة. لا بل إن ما حصل يمثل ويعبّر عن فرض جهاز الدولة هيمنته الاقتصادية والسياسية، عبر تسخير القانون من أجل تأمين استدامة القهر، لا معالجة أسباب المشكلات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. واقعة عبد المسيح ليست الوحيدة، يعرف الباحثون القانونيون أنها ليست المرة الأولى التي يتم سجن شخص في قضية مرتبطة بالجوع. إلا أن هذه المرة اتسعت الدائرة لتشمل الحكم على الأطفال الجوعى.
يكشف عبد المسيح أيضاً كذب شعارات بعض من اعتبروا أنفسهم رموزاً للثورة، بينما هم بشعاراتهم يبنون جداراً بين معيشة الناس وأوضاعهم الاقتصادية من جهة، والعملية السياسية من جهة أخرى، ويعتبرون التغيير الاقتصادي هدفاً لاحقاً سوف يأتي مع الديمقراطية. وينظرون أن أوضاع الناس الاقتصادية سوف تتغير بوصول أي طرف منهم إلى السلطة.
لقد أوضح عبد المسيح بؤس من يعتبرون أنفسهم ممثلي الثورة، حين تمحور خطابهم حول التغيير الذي يقف عند حدود الصندوق. بل يعتبر الكثير منهم أن الثورة قامت ضد بطش الشرطة أساساً ولا تحمل أهدافاً اقتصادية. وهم بذك يلتقون أيضاً مع أهداف السلطة النهائية في الإبقاء على أسس النظام.
عرّى عبد المسيح تناقض حاملي خطابات تنحاز بالشعار للفقراء، بينما يؤيد الكثير منهم السلطة التي تحظى بمساندة المحتكرين والفاسدين... وخاصة أن السلطة الجديدة تدعو الفئات التي استفادت من حكم مبارك لكي تستفيد من حكم السيسي، وتعبّر ذهنية المشرع ومتخذي القرار عن أنه لا مكان لتغيير في الأداء أو المنهج والتوجه الاقتصادي.
لذا لن يقف السيسي بجوار عبد المسيح ليلتقط صورة تذكارية معه وهو يدمع، لأنه يدرك أنه لا مجال للتعاطف مع ضحايا نظام هو أحد أركانه، ولأنه يؤمن بأن حل أزمة الحكم والاقتصاد تتطلب من المصريين التضحية بجيل أو جيلين.
يمكننا القول إن واقعة عبد المسيح تلخص تعثر عملية التغيير، وضعف القوى الاجتماعية التي تحمل مشروع التغيير، لكن ورغم التعثر إلا أن تكرار مثل هذه الظواهر سيؤدي إلى انفجار شعبي في المستقبل، انفجار سوف يفرض مطالبه.

*باحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية

المساهمون