يقول الفيلسوف فولتير: إنّ تباين اللغات هو من أكبر مصائب الخليقة.
يُروى في الكتاب المقدّس عن برج بابل الذي شُيّد كي يبلغ السماء، ولكنه لم يكتمل؛ لأنَّ الإله غضب على البشر آنذاك وبلبل ألسنتهم وشتَّت لغاتهم، بعد أن كانت لغتهم واحدة.
لعلَّ هذه القصة انطوت على حُلم لازمَ الإنسان بالرنو إلى لغة كونيّة ليتواصل بها البشر دون الحاجة إلى وسيط، ولكن هذا الحُلم تبدّد أمام الركام اللغوي الهائل، فنافت اللغات على ستة آلاف لغة يتكلم بها أفراد هذا الكون بتفاوت وسيرورة. وقد بذل العلماء الوسع َكلَّه؛ أجْلَ اشتقاق لغات اصطناعيّة كالفولابوك، والاسبرانتو، ونوفيال وغيرها، بيْد أنَّ رهانهم فشل في اجتراح لغة يتواصل بها سكان هذه الأرض، وراحت كُلُّ أمّة تُعنى بلغتها تواصلاً وتأليفاً وطابَعاً وجدانياً للهُويّة. ولكن هل ترك الحَراك التواصلي بين الدول والشعوب اللغات على حالها، أم أسهمت التَّقانة والطفرة الكونيّة في رفع أسهم لغات وضمور لغات كثيرة؟
يصْدُر الباحث سكوت مونتغمري في كتابه" هل يحتاج العلم إلى لغة عالميّة؟ اللغة الإنجليزيةّ ومستقبل البحث العلمي" عن أطروحة ماثلة في "أن البحث في العصر الحديث يحتاج إلى لغة عالميّة للبحث العلمي وتحقيق الرفاهيّة للمجتمعات والأفراد، ولكن أيّ لغة تلك التي يطمح المؤلف لتتقلد مكانة القيادة للبشريّة؟".
يحشد مونتغمري البيّنات والآراء في كتابه ليُلمِع إلى أنَّ اللغة الإنجليزيّة هي المؤهلة للقيام بدور اللغة المشتركة في العِلم والتقنية، فالإنجليزيّة منذ تسعينيات القرن المنصرم هي لغة 90% من معظم مجالات البحث العلمي، وفي العام 2010 أصبحت صناعة تعليم اللغة الإنجليزيّة صناعة عالميّة إذ بلغت إيراداتها 50 مليار دولار في العام، وهي لغة أصليّة لنحو 380 مليون شخص، ولغة ثانية لعدد مساوٍ، ولغة أجنبيّة لنحو 800 مليون شخص، ويتحدث بها - بدرجات متفاوتة - أكثر من مليارَي شخص في 120 بلداً. ولا ينفصل مستقبل العِلم - وفقاً لمونتغمري - عن اللغة الإنجليزيّة، كما أن الإنجليزيّة في العلم لا ينفصل بذاته عن تقدّم الاتصالات الرقميّة، وعن إعادة ترتيب النظام الجيوسياسي بعد الشيوعيّة. فالحِقبة الجديدة تعوزها لغة مشتركة، غير أنّ أدبيّات العِلم تشير إلى أن المعرفة لا تنتمي لأمة أو لسان أو طبقة أو ثقافة أو إقليم، بل هي تجارب تراكميّة أسهمت الأمم والثقافات والألسنة عبر آلاف السنين في إنجازها. ومع أن هذه الحقيقة ثاوية في تجربة الإنسان على هذه الأرض، غير أنّ مونتغمري يرى اختيار اللغة الإنجليزيّة اختياراً مُستحسناً من المجتمع الدولي، وبيئة البحث العلمي في القرن الحادي والعشرين، ويصطفي الباحث أمثلة فرديّة وجماعيّة لتفنيد دعوى التعدد اللغوي في لحظتنا الكونيّة، فالعلم الحديث يحتاج إلى لغة عالميّة "اللغة الإنجليزيّة"؛ لنموِّه وتقدّمه وتوسيع دوائر التعاون بين الباحثين، والإفادة من التواصل المعرفي في الحقول كافة.
ويُسبغ مونتغمري على خطابه غُلالة من العِلميّة والموضوعيّة لتعضيد وجاهة طرحه في أنّ اللغة الإنجليزية لغة مشتركة لعصرنا، ويُغفل الظروف السياسيّة والاستعماريّة والاقتصاديّة التي أفضت إلى تقدّم اللغة الإنجليزيّة، وكيف بسطت هيمنتها في أرجاء المعمورة؟ علاوة على الدور التقني والعولمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركيّة، فالدعوة إلى لغة عالميّة أحاديّة للمعرفة والتواصل لم تجد قَبولاً لدى أطياف كثيرة من المتخصصين والباحثين في شتى المعارف، فالتعدد اللغوي ينسجم مع الحقوق اللغويّة للشعوب والأقليات والمساواة الاجتماعيّة. وقد جُوبهت الدعوات التي تنادي بالأُحاديّة اللغويّة بالرفض منذ عقود، فالولايات المتحدة الأميركيّة ـ مثلاً - لم تكن ذات لغة واحدة، وقد برهن كلوس (1978) على أن التعدد اللغوي والسياسات اللغويّة المتعهدة للغات غير الإنجليزيّة كانتا خاصيتين جوهريتين تسمان الوضعيّة اللغويّة في أميركا منذ فترة الاستيطان. ثم إنّ استعمال لغات أخرى غير الإنجليزيّة على إدماج فئات المهاجرين في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة للأمة، وذلك بتيسير مشاركتهم في النشاط السياسي، وتلقّي التعليم، والحصول على فُرص عمل.
فمن ناحية سياسيّة ترتبط عالميّة اللغة الإنجليزيّة بتوسع الإمبراطوريّة البريطانيّة الذي استمرّ حتى بدايات القرن العشرين. ومن ناحية اقتصاديّة فإن قوة الإمبراطوريّة البريطانيّة الاقتصاديّة وما كانت توفّره من فرص تعلّم التقنيات الصناعيّة الحديثة للأفراد القادمين من الخارج يفرض عليهم التعامل والدراسة باللغة الإنجليزيّة أسهم أيضاً في عالميتها.
وثمّة أسباب أخرى تتعلق بانتشار الإعلان الصادر باللغة الإنجليزيّة، والصحافة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة حول العالم، وانتشار الموسيقى الشعبيّة الإنجليزيّة، وأنّ اللغة الإنجليزيّة هي اللغة الوسيط بالنسبة لأولئك الذين يدخلون عالم السفر الدولي.
إنّ ترويج اللغة الإنجليزيّة لغةً للتقدم والرفاهيّة الاقتصاديّة أدى إلى خلق فروقات اجتماعيّة بين الأفراد في الدول التي تتعامل مع الإنجليزيّة لغة ثانية إذ يؤثر نجاح أو الفشل في اللغة على التعليم وإيجاد فرص العمل.
ويُحاجج مؤلِّف الكتاب مونتغمري في أن تكون الإنجليزيّة قد تربعت على عرش اللغات والبحث العلمي بفضل التجربة الاستعماريّة البريطانيّة والقوة الأميركيّة حسب، بل إنّ ثمة أسباباً موضوعيّة وتقنيّة أخرى أدت إلى هذا الخيار، وينكر مونتغمري أن يكون البحث العلمي دُمية لغويّة للتجارب، فالوقائع العمليّة تعطي أولويّة للغة الإنجليزيّة لتقوم بدور اللغة العالميّة، ويدفع المؤلف المزاعم التي ترهن الإنجليزيّة بعمليات " القتل اللغوي" أو "الإبادة اللغويّة".
فهل كانت الإنجليزيّة بِدْعاً من اللغات العالميّة التي مارست سطوتها في زمن صعود دولها؟ إنّ قراءة سابرة للحالات اللغويّة تقفنا على أن ارتباط قوة أمة ما ينعكس على قوة لغتها وانتشارها، فالعربيّة ـ مثلاً - كانت لها الغلبة في زمن ازدهار الدولة العربيّة الإسلاميّة في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الميلاديّة، فكانت العربيّة لغة عالميّة في البقاع التي سيطر عليها العرب والمسلمون، فكانت لغة الفاتحين هي اللغة الرسميّة، وتراجعت لغات الشعوب الأصلية كالقبطيّة في مصر والبربريّة في شمال أفريقيا، ولا نعجب من بعض روايات التاريخ في العصر العباسي حين أخبر والي خراسان خليفةّ المسلمين بأن أهل خراسان الآن عرب؛ أي يتحدثون العربيّة، وما كانت العربيّة قبل الفتح العربي الإسلامي بلغة أصليّة لسكان خراسان. وفي زمن الشهود الحضاري للعرب كانت الشعوب مُقبلة على تعلّم العربيّة؛ لأنها كانت ـ آنذاك - اللغة العالميّة في كثير من أقطار المعمورة. علاوة على دور الدين في نشر اللغة؛ لأنَّ العربية لغة العبادة للمسلمين، ولعلَّ إلغاء دولة الخلافة وإعلان الدولة العلمانيّة على يد مصطفى أتاتورك قد ترك آثاره على اللغة العربيّة فاستبدل أتاتورك اللاتينيّة بالعربيّة؛ لأن اللغة سمة ناشبة للفكر وملمح مهم للحضارة.
ولم تكن الحالة العربيّة في العصر الحديث بمنأى عن سؤال العبور الحضاري والالتحاق بركب التقدم، فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين جدلاً بين المفكرين العرب حول اللغة المؤهلة للتقدم، فارتأى بعض الباحثين كسلامة موسى، ولويس عوض، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين أن الخلل يكمن في اللغة، وأن التقدم يقتضي لغة متطورة، فاقترح بعضهم أن نستعمل الإنجليزية لأنها لغة العلم والحداثة، وذهب آخرون إلى أن العربيّة يعوزها بث الحياة فيها، والسير مسيرة الأوروبيين لنكون لهم أنداداً، وهذا ما أشار إليه طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".
ونلحظ أن كثيراً من الدول منبهرة بالنموذج الأميركي في العصر الحديث، وترغب في اقتفاء هذا النموذج من خلال بوابة اللغة الإنجليزيّة، ويجْهد المؤلف سكوت مونتغمري في كتابه أن يسوق معلومات كثيرة ونتائج دراسات متنوعة أُجريت في مناطق مختلفة في العالم؛ ليجيب عن سؤاله الذي وسم به كتابه: هل يحتاج العلم إلى لغة عالميّة؟ وتأتي الإجابة: بنعم. مع أنّ هذه النتيجة التي خَلص إليها المؤلف لا تتسق وسياسات تعليم اللغات والتنوُّع اللغوي، ويجدر أن ننهي هذه المقاربة بما جاء في الدليل إلى سياسات تعليم اللغة لمجلس أوروبا: "ليس التعدد اللغوي ببساطة ضرورة وظيفيّة فحسب، إنها مقوّم أساسي من مقومات السلوك الديمقراطي، إنّ الاعتراف بالتنوّع في الذخائر المتعدِّدة لغوياً للمتحدثين يجب أن يقود إلى تسامح لغوي، وبالتالي احترام الاختلافات اللغويّة: احترام الحقوق اللغويّة للأفراد والجماعات. إنّ تعليم اللغة بوصفه المكان المثالي للاتصال القائم بين الثقافات، هو قطاع يمكن فيه تضمين التعليم من أجل حياة ديمقراطيّة في أبعادها البين ثقافيّة في أنظمة التعليم".
يُشار إلى أن كتاب "هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية؟ اللغة الإنجليزية ومستقبل البحث العلمي" للباحث سكوت مونتغمري، صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2014، ترجمة د. فؤاد عبد المطلب.
(أكاديمي وكاتب أردني)
يُروى في الكتاب المقدّس عن برج بابل الذي شُيّد كي يبلغ السماء، ولكنه لم يكتمل؛ لأنَّ الإله غضب على البشر آنذاك وبلبل ألسنتهم وشتَّت لغاتهم، بعد أن كانت لغتهم واحدة.
لعلَّ هذه القصة انطوت على حُلم لازمَ الإنسان بالرنو إلى لغة كونيّة ليتواصل بها البشر دون الحاجة إلى وسيط، ولكن هذا الحُلم تبدّد أمام الركام اللغوي الهائل، فنافت اللغات على ستة آلاف لغة يتكلم بها أفراد هذا الكون بتفاوت وسيرورة. وقد بذل العلماء الوسع َكلَّه؛ أجْلَ اشتقاق لغات اصطناعيّة كالفولابوك، والاسبرانتو، ونوفيال وغيرها، بيْد أنَّ رهانهم فشل في اجتراح لغة يتواصل بها سكان هذه الأرض، وراحت كُلُّ أمّة تُعنى بلغتها تواصلاً وتأليفاً وطابَعاً وجدانياً للهُويّة. ولكن هل ترك الحَراك التواصلي بين الدول والشعوب اللغات على حالها، أم أسهمت التَّقانة والطفرة الكونيّة في رفع أسهم لغات وضمور لغات كثيرة؟
يصْدُر الباحث سكوت مونتغمري في كتابه" هل يحتاج العلم إلى لغة عالميّة؟ اللغة الإنجليزيةّ ومستقبل البحث العلمي" عن أطروحة ماثلة في "أن البحث في العصر الحديث يحتاج إلى لغة عالميّة للبحث العلمي وتحقيق الرفاهيّة للمجتمعات والأفراد، ولكن أيّ لغة تلك التي يطمح المؤلف لتتقلد مكانة القيادة للبشريّة؟".
يحشد مونتغمري البيّنات والآراء في كتابه ليُلمِع إلى أنَّ اللغة الإنجليزيّة هي المؤهلة للقيام بدور اللغة المشتركة في العِلم والتقنية، فالإنجليزيّة منذ تسعينيات القرن المنصرم هي لغة 90% من معظم مجالات البحث العلمي، وفي العام 2010 أصبحت صناعة تعليم اللغة الإنجليزيّة صناعة عالميّة إذ بلغت إيراداتها 50 مليار دولار في العام، وهي لغة أصليّة لنحو 380 مليون شخص، ولغة ثانية لعدد مساوٍ، ولغة أجنبيّة لنحو 800 مليون شخص، ويتحدث بها - بدرجات متفاوتة - أكثر من مليارَي شخص في 120 بلداً. ولا ينفصل مستقبل العِلم - وفقاً لمونتغمري - عن اللغة الإنجليزيّة، كما أن الإنجليزيّة في العلم لا ينفصل بذاته عن تقدّم الاتصالات الرقميّة، وعن إعادة ترتيب النظام الجيوسياسي بعد الشيوعيّة. فالحِقبة الجديدة تعوزها لغة مشتركة، غير أنّ أدبيّات العِلم تشير إلى أن المعرفة لا تنتمي لأمة أو لسان أو طبقة أو ثقافة أو إقليم، بل هي تجارب تراكميّة أسهمت الأمم والثقافات والألسنة عبر آلاف السنين في إنجازها. ومع أن هذه الحقيقة ثاوية في تجربة الإنسان على هذه الأرض، غير أنّ مونتغمري يرى اختيار اللغة الإنجليزيّة اختياراً مُستحسناً من المجتمع الدولي، وبيئة البحث العلمي في القرن الحادي والعشرين، ويصطفي الباحث أمثلة فرديّة وجماعيّة لتفنيد دعوى التعدد اللغوي في لحظتنا الكونيّة، فالعلم الحديث يحتاج إلى لغة عالميّة "اللغة الإنجليزيّة"؛ لنموِّه وتقدّمه وتوسيع دوائر التعاون بين الباحثين، والإفادة من التواصل المعرفي في الحقول كافة.
ويُسبغ مونتغمري على خطابه غُلالة من العِلميّة والموضوعيّة لتعضيد وجاهة طرحه في أنّ اللغة الإنجليزية لغة مشتركة لعصرنا، ويُغفل الظروف السياسيّة والاستعماريّة والاقتصاديّة التي أفضت إلى تقدّم اللغة الإنجليزيّة، وكيف بسطت هيمنتها في أرجاء المعمورة؟ علاوة على الدور التقني والعولمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركيّة، فالدعوة إلى لغة عالميّة أحاديّة للمعرفة والتواصل لم تجد قَبولاً لدى أطياف كثيرة من المتخصصين والباحثين في شتى المعارف، فالتعدد اللغوي ينسجم مع الحقوق اللغويّة للشعوب والأقليات والمساواة الاجتماعيّة. وقد جُوبهت الدعوات التي تنادي بالأُحاديّة اللغويّة بالرفض منذ عقود، فالولايات المتحدة الأميركيّة ـ مثلاً - لم تكن ذات لغة واحدة، وقد برهن كلوس (1978) على أن التعدد اللغوي والسياسات اللغويّة المتعهدة للغات غير الإنجليزيّة كانتا خاصيتين جوهريتين تسمان الوضعيّة اللغويّة في أميركا منذ فترة الاستيطان. ثم إنّ استعمال لغات أخرى غير الإنجليزيّة على إدماج فئات المهاجرين في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة للأمة، وذلك بتيسير مشاركتهم في النشاط السياسي، وتلقّي التعليم، والحصول على فُرص عمل.
فمن ناحية سياسيّة ترتبط عالميّة اللغة الإنجليزيّة بتوسع الإمبراطوريّة البريطانيّة الذي استمرّ حتى بدايات القرن العشرين. ومن ناحية اقتصاديّة فإن قوة الإمبراطوريّة البريطانيّة الاقتصاديّة وما كانت توفّره من فرص تعلّم التقنيات الصناعيّة الحديثة للأفراد القادمين من الخارج يفرض عليهم التعامل والدراسة باللغة الإنجليزيّة أسهم أيضاً في عالميتها.
وثمّة أسباب أخرى تتعلق بانتشار الإعلان الصادر باللغة الإنجليزيّة، والصحافة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة حول العالم، وانتشار الموسيقى الشعبيّة الإنجليزيّة، وأنّ اللغة الإنجليزيّة هي اللغة الوسيط بالنسبة لأولئك الذين يدخلون عالم السفر الدولي.
إنّ ترويج اللغة الإنجليزيّة لغةً للتقدم والرفاهيّة الاقتصاديّة أدى إلى خلق فروقات اجتماعيّة بين الأفراد في الدول التي تتعامل مع الإنجليزيّة لغة ثانية إذ يؤثر نجاح أو الفشل في اللغة على التعليم وإيجاد فرص العمل.
ويُحاجج مؤلِّف الكتاب مونتغمري في أن تكون الإنجليزيّة قد تربعت على عرش اللغات والبحث العلمي بفضل التجربة الاستعماريّة البريطانيّة والقوة الأميركيّة حسب، بل إنّ ثمة أسباباً موضوعيّة وتقنيّة أخرى أدت إلى هذا الخيار، وينكر مونتغمري أن يكون البحث العلمي دُمية لغويّة للتجارب، فالوقائع العمليّة تعطي أولويّة للغة الإنجليزيّة لتقوم بدور اللغة العالميّة، ويدفع المؤلف المزاعم التي ترهن الإنجليزيّة بعمليات " القتل اللغوي" أو "الإبادة اللغويّة".
فهل كانت الإنجليزيّة بِدْعاً من اللغات العالميّة التي مارست سطوتها في زمن صعود دولها؟ إنّ قراءة سابرة للحالات اللغويّة تقفنا على أن ارتباط قوة أمة ما ينعكس على قوة لغتها وانتشارها، فالعربيّة ـ مثلاً - كانت لها الغلبة في زمن ازدهار الدولة العربيّة الإسلاميّة في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الميلاديّة، فكانت العربيّة لغة عالميّة في البقاع التي سيطر عليها العرب والمسلمون، فكانت لغة الفاتحين هي اللغة الرسميّة، وتراجعت لغات الشعوب الأصلية كالقبطيّة في مصر والبربريّة في شمال أفريقيا، ولا نعجب من بعض روايات التاريخ في العصر العباسي حين أخبر والي خراسان خليفةّ المسلمين بأن أهل خراسان الآن عرب؛ أي يتحدثون العربيّة، وما كانت العربيّة قبل الفتح العربي الإسلامي بلغة أصليّة لسكان خراسان. وفي زمن الشهود الحضاري للعرب كانت الشعوب مُقبلة على تعلّم العربيّة؛ لأنها كانت ـ آنذاك - اللغة العالميّة في كثير من أقطار المعمورة. علاوة على دور الدين في نشر اللغة؛ لأنَّ العربية لغة العبادة للمسلمين، ولعلَّ إلغاء دولة الخلافة وإعلان الدولة العلمانيّة على يد مصطفى أتاتورك قد ترك آثاره على اللغة العربيّة فاستبدل أتاتورك اللاتينيّة بالعربيّة؛ لأن اللغة سمة ناشبة للفكر وملمح مهم للحضارة.
ولم تكن الحالة العربيّة في العصر الحديث بمنأى عن سؤال العبور الحضاري والالتحاق بركب التقدم، فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين جدلاً بين المفكرين العرب حول اللغة المؤهلة للتقدم، فارتأى بعض الباحثين كسلامة موسى، ولويس عوض، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين أن الخلل يكمن في اللغة، وأن التقدم يقتضي لغة متطورة، فاقترح بعضهم أن نستعمل الإنجليزية لأنها لغة العلم والحداثة، وذهب آخرون إلى أن العربيّة يعوزها بث الحياة فيها، والسير مسيرة الأوروبيين لنكون لهم أنداداً، وهذا ما أشار إليه طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".
ونلحظ أن كثيراً من الدول منبهرة بالنموذج الأميركي في العصر الحديث، وترغب في اقتفاء هذا النموذج من خلال بوابة اللغة الإنجليزيّة، ويجْهد المؤلف سكوت مونتغمري في كتابه أن يسوق معلومات كثيرة ونتائج دراسات متنوعة أُجريت في مناطق مختلفة في العالم؛ ليجيب عن سؤاله الذي وسم به كتابه: هل يحتاج العلم إلى لغة عالميّة؟ وتأتي الإجابة: بنعم. مع أنّ هذه النتيجة التي خَلص إليها المؤلف لا تتسق وسياسات تعليم اللغات والتنوُّع اللغوي، ويجدر أن ننهي هذه المقاربة بما جاء في الدليل إلى سياسات تعليم اللغة لمجلس أوروبا: "ليس التعدد اللغوي ببساطة ضرورة وظيفيّة فحسب، إنها مقوّم أساسي من مقومات السلوك الديمقراطي، إنّ الاعتراف بالتنوّع في الذخائر المتعدِّدة لغوياً للمتحدثين يجب أن يقود إلى تسامح لغوي، وبالتالي احترام الاختلافات اللغويّة: احترام الحقوق اللغويّة للأفراد والجماعات. إنّ تعليم اللغة بوصفه المكان المثالي للاتصال القائم بين الثقافات، هو قطاع يمكن فيه تضمين التعليم من أجل حياة ديمقراطيّة في أبعادها البين ثقافيّة في أنظمة التعليم".
يُشار إلى أن كتاب "هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية؟ اللغة الإنجليزية ومستقبل البحث العلمي" للباحث سكوت مونتغمري، صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2014، ترجمة د. فؤاد عبد المطلب.
(أكاديمي وكاتب أردني)