"العربية في خطر".. أو الأيديولوجيا اللغوية

"العربية في خطر".. أو الأيديولوجيا اللغوية

12 ابريل 2015
طلاب أكراد يتعلمون اللغة العربية في السليمانية، العراق (Getty)
+ الخط -
قلق عربي يسود الحديث عن اللغة العربية بحلتها الفصحى أو، لعله من الأفضل أن نقول، بحلتها الفصيحة. يتجلى هذا القلق بمقولات شتى يمكن إيجازها بشعارين اثنين: اللغة العربية في خطر داهم، من ناحية، واللغة العربية تعاني من التكلس الشديد أو الجمود الذي لا جمود بعده، من ناحية أخرى.

إن المتابع لهذه القضية لطالما قرأ أن هناك "حربا" على اللغة العربية تهددها من الخارج، بفعل قوى أجنبية تتطاول عليها، باعتبارها وسيلة ترميز للهوية العربية. وحتى تفعل هذه القوى فعلتها، فإنها تلجأ إلى استدراج بعض أبناء هذه اللغة لتجعل منهم معاول هدم في أيديها، إذ يصبحون ويمسون طابورا خامسا، يقوض جذور هذه اللغة - الهوية عن دراية أو من دون دراية.

كثيراً ما نرى هذه المقولة تنعكس في حقل معجمي يشمل ضمن ما يشمل رؤى تتحدث عن "الخطر اللغوي" و"المخاطر اللغوية" و"الزحف على اللغة العربية" و"اللغة العربية في معركة الحضارة" و"انتحار اللغة العربية" و"تهديد الأمن القومي العربي" بالإضافة إلى توصيف وضع اللغة العربية على أنها تعيش "أزمة مزمنة" لم تستطع أن تنعتق من قبضتها منذ أكثر من قرن، إذا ما عدنا إلى التوصيف الذي قدمته لنا قصيدة حافظ إبراهيم "اللغة العربية تشكو حظها" التي نشرت عام 1903.

أما قضية التكلس والجمود، فقد عبر عنها أشد تعبير جبران خليل جبران، في نصه النثري "لكم لغتكم ولي لغتي" التي أراد بها أن تتناص مع سورة "الكافرون" لتضفي فحواها على ظلال المعاني الجبرانية.

نحن، في الحالتين، أمام أيديولوجيا لغوية عربية بالمفهوم السائد اليوم للأيديولوجيا في العلوم الاجتماعية. ضمن هذا المفهوم تشكل أيديولوجيا اللغة مجموعة الآراء والمعتقدات والأفكار التي تتمحور حول اللغة والتي تنتشر بين أفراد المجتمع الذين يمكنهم توظيفها للتأثير في السياسات العامة للدولة بهدف المحافظة على الوضع الراهن، أو بهدف تغيير هذا الوضع في اتجاه آخر.

وللتمثيل على ذلك، فإن مقولة "الحرب والخطر" كثيرا ما تستخدم لمقاومة بعض المحاولات الصادقة والجادة في تحديث طرائق تعليم اللغة العربية، في محاولة للإبقاء على وضع العملية التعليمية على ما هي عليه. لقد خبرت ذلك مباشرة في أكثر من سياق عربي، برغم حرصي الشديد على أن تكون اللغة العربية مصونة وقوية بين أهلها.

لعل الأهم من توصيف الأيديولوجيا اللغوية في أي مجتمع هو تفسيرها وربطها بسياقها التاريخي. إن الحديث عن الحروب والمخاطر اللغوية والانتحار اللغوي ظاهرة جديدة في تاريخ الأيديولوجيا اللغوية العربية التي كانت تدور في الماضي حول جمال اللغة العربية وغناها المعجمي وتفوّقها على اللغات الأخرى. إذا ما سلمنا بذلك فلا بد أن نقبل بأن عناصر الأيديولوجيا اللغوية الجديدة مرتبطة بحالة الضعف التي يعيشها أبناء الأمة العربية في السياق الدولي.

لا جديد في هذا التفسير. إنما الأمر الذي أريد أن أشير إليه هو أن القلق اللغوي العربي ليس ظاهرة لغوية في أساسه، بل هو في الدرجة الأولى ظاهرة سياسية تتقمص مظهر اللغة. إن صح ذلك فلا بد أن نقبل إذن بأن أيديولوجيا اللغة العربية مادة تنتمي إلى علوم السياسة والمجتمع، كما تنتمي في الوقت ذاته إلى طلبة اللسانيات. ولا بد أن نقبل أيضا بأن محاولات التصدي للقلق اللغوي العربي على أنه ظاهرة لغوية بحتة، على شاكلة اللسانيين المحدثين من العرب، قد لا تأتي أكلها المرجوة، لأنها تجعل من السياسي والاجتماعي أمرا لغويا يتطلب حلولا لغوية.

لقد خبرت هذا مرارا وتكرارا في حياتي العملية. وكم كنت أنصح بعدم الخلط بين ما أسميه "الضغط اللغوي" و"القلق اللغوي". الأول لغوي المظهر والأساس، الأمر الذي يسمح لنا بالتعامل معه بأدوات لغوية وتربوية بحتة. الثاني مظهره اللغة وأساسه السياسة والمكانة التاريخية. الأول ينضوي تحت مفهوم اللغة كأداة تواصلية، أما الثاني فيتعلق بوظيفة اللغة الترميزية في الدلالة على قيمة المجموعة والفرد بالمقارنة مع الآخر في سياق دارويني الغلبة فيه للأقوى.

(أستاذ كرسي جلالة السلطان قابوس للدراسات العربية الحديثة - جامعة كامبردج)

المساهمون