أعطاب مغربية في مشهد حريق

أعطاب مغربية في مشهد حريق

23 اغسطس 2019
+ الخط -
تداول المغاربة، على نطاق واسع، مقاطع فيديو مأساوية، توثق حريقا شبّ في مبنى سكني، في منطقة تابعة لمدينة الخميسات (شمال)، أدى إلى احتراق طفلة، لم تكمل بعد ربيعها الثامن، بعدما التهمت ألسنة النيران جسدها، وهي معلقة في الشباك الحديدي للنافذة، في لحظة استسلام بعد أن خاب أملها في النجاة. ومأساوية المشهد الذي وقع تحت نظرات من حضر من مواطني المدينة، قبل أن ينتشر بين عموم المغاربة، فرض على وزارة الداخلية فتح تحقيق بشأن أسباب وحيثيات وفاة الطفلة. تحقيق سرعان ما أغلق؛ على غرار التحقيق في حادثة التساقطات الرعدية التي راح ضحيتها 16 شخصا، قبل أسبوعين في نواحي مراكش، بنسبة المسؤولية عن الحادث للمجهول، فالأطراف المعنية، بحسب التحقيق، قامت بواجبها كما ينبغي، لتبقى الفواجع في النهاية قضاء وقدرا. 
تحاول الدولة جاهدة إبعاد أي مسؤولية لها عن هذه الحوادث، لكنها تثبت، من حيث لا تدري؛ بالروايات والبلاغات التي تلي كل مأساة، أن لها النصيب الأكبر من المسؤولية، وأحيانا المسؤولية كاملة، فما يقع، بين الفينة والأخرى، يكشف، من ناحية، عن حجم إخفاقات الدولة في تدبير شيء اسمه الخدمة العمومية التي تشكل أساس وجود القطاع العام. ويكشف، من ناحية أخرى، عن الأعطاب الحقيقية في مغربٍ لم تعد أحواله تسرّ أعلى سلطة في البلاد، وقد عبّرت عن ذلك في أكثر من خطاب.
في رواية الدولة بشأن مأساة احتراق الطفلة، كان شاحن الهاتف النقال من النوع الرديء هو السبب وراء واقعة الحريق، ما يعني ابتعاد الدولة، تلقائيا، عن دائرة الاتهام. لكن مسؤوليتها، في المقابل، مطلقة، عن تطبيق القانون المتعلق بتدابير حماية المستهلك. ما يجعل على عاتقها مهمة التصدّي لكل ما قد يشكل تهديدا على صحة المغاربة وسلامتهم، من سلع ومواد رخيصة يتم تداولها، على نطاق واسع، في الأسواق المغربية.
هنا إذن يكبر محيط دائرة الإدانة، ليشمل مصالح عديدة في الإدارة المغربية التي تغض الطرف عمدا عن هذه المواد؛ نتيجة تواطؤ ممثليها بسبب الفساد والرشوة، أو ربما عن جهل بما يروج 
في الأسواق من بضائع وسلع، لا يتوفر فيها الحد الأدنى من المعايير. ليبقى الأمر في الحالتين كارثيا، وتبقى معه مسؤولية الدولة قائمة، لتقصيرها في حماية صحة مواطنيها وسلامتهم.
ارتأى تحقيق وزارة الداخلية، من باب تشطير المسؤولية (بلغة أهل القانون) أن يكون للشباك الحديدي، أو بالأحرى لمن وضعوه على نافذة الغرفة التي تطل منها الطفلة، نصيب من المسؤولية فيما جرى، فوجود هذا السياج المتين حال دون رجال الوقاية المدنية والطفلة التي احترقت أمام أعينهم.
انطلقت بعدها حملة؛ غير بريئة، في العالم الافتراضي، تطالب بمراجعة المعايير المحددة لمنح تراخيص إقامة الأبنية والمنازل وتشييدهما، ومنع استعمال هذه الشبابيك في الواجهات الخارجية لها. ولا أحد تجرأ، في غمرة السجال بشأن الواقعة، على طرح سؤال جوهري حول أسباب استعمال المغاربة هذا النوع من السياج، وذلك لأن الجواب ببساطة، يقود إلى مساءلة المنظومة الأمنية المغربية، فالخوف من النهب والسرقة والبحث عن أساليب لضمان حماية الممتلكات الخاصة دفع المواطنين إلى تحويل بيوتهم إلى صناديق مسيّجة بالحديد، بابتكار هذه الحلول (أبواب ونوافد حديدية).
أما قطاع الوقاية المدنية الذي أشاد به التحقيق، مؤكدا أنه قام بدوره على أحسن وجه، فتكفي العودة إلى الفيديوهات للاطلاع على حقيقة هذا الدور. طريقة تدخّل رجال المطافئ وهم يواجهون النيران أشبه ما تكون بمشاهد ساخرة في رسوم متحركة للأطفال، فلا تأهيل في المستوى يليق بالعاملين فيه، وبمستوى الأخطار التي يتعرّضون لها. ولا معدات وأجهزة كفيلة بتمكين رجاله من مواجهة الطوارئ والكوارث. ولا أدل على ذلك من وقوفهم في هذه الواقعة عاجزين أمام شباك حديدي، حال بينهم وبين الطفلة.
تلخص هذه الواقعة وأخواتها من الحوادث القاسية (نساء سيدي غانم في الصويرة، أطفال 
ضحايا لسعات العقارب، ضحايا موجات البرد..) التي تهز المجتمع المغربي، بين فينة وأخرى، بما يكتنفها من تفاصيل أعطاب المشهد العام في البلد وجزئياته، فبين مأساة تنقضي وأخرى تحل، تفضح الصورة العامة إخفاقات الدولة، وينكشف الخلل المزمن في ترتيب الأولويات، والعجز على عدة مستويات.
أغرقت الدولة نفسها في معارك سياسية طاحنة من أجل التحكّم في المشهد السياسي، وضبط مختلف القوى الفاعلة فيه؛ معتمدة أسلوب الولاء؛ بإنشاء أحزاب مخزنية واحتضانها، أو أسلوب الترغيب والترهيب في أوساط أحزاب اختارت الاستقلالية عن الدولة. وفي المقابل، فرّطت في أداء أدوارها الاجتماعية والاقتصادية التي تمنحها المشروعية، وترفع من منسوب ثقة المواطن البسيط فيها. ما انعكس سلبا على صورة الأخيرة وهيبتها، فازدادت جرأة المغاربة على مؤسسات الدولة، بعدما فقدت مصداقيتها في أعين كثيرين، وصار التشكيك في أي خطوة تأتي منها هو الأساس، كما أضحى الاعتداء المادي والرمزي على من يمثلها (مؤسسات وأشخاصا) أمرا عاديا.
استمرار مسلسل الحوادث التي تعرّي المستور والخفي في الدولة يحول دون استعادة عنصر الثقة المفقود بين المواطن والدولة. بذلك يكون خيار الردع واستخدام العنف الوحيد المتبقي بين يدي الدولة، لكن فعاليته ونجاعته تبقى مرحلية، ومفعوله مؤقت وقابل للانقلاب إلى النقيض في كل وقت.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري