أين ذهب السفاح عبد العظيم باشا؟

أين ذهب السفاح عبد العظيم باشا؟

06 مايو 2019
+ الخط -
حين ذهب نواب الشعب المصري المنتخبون إلى مقر البرلمان في يوم 21 يونيو 1930، ليعقدوا اجتماعاً يحتجون فيه على العبث بالدستور واحتقار إرادة الشعب، وجدوا مقر البرلمان مغلقاً بأمر رئيس الحكومة الجديد إسماعيل صدقي، الذي كلفه الملك فؤاد بتولي مقاليد الحكم، بعد قبوله استقالة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد، التي كان الكثيرون يظنون أن الملك فؤاد لن يقوم بقبولها، لأنه سيخاف من دخول البلاد في أزمة سياسية، تضاعف آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي بدأ المصريون يعانون منها بالفعل.

لم يوافق نواب الأغلبية الوفدية على الإذعان لسطوة إسماعيل صدقي، فأمر رئيس مجلس النواب ويصا واصف حرس البرلمان بتحطيم السلاسل التي أغلق باب البرلمان بها، واندفع الشيوخ والنواب إلى داخل المجلس ليعلنوا احتجاجهم على المخالفات الدستورية التي قامت بها حكومة صدقي، ليكون "يوم تحطيم السلاسل" بداية لمواجهة سياسية قرر الوفد أن ينقلها إلى شوارع المدن المصرية، من خلال مؤتمرات جماهيرية حاشدة قرر مصطفى النحاس أن يحضرها بنفسه، وبدأها بمؤتمر في الزقازيق في أول يوليو 1930، ثم سافر إلى المنصورة في يوم 8 يوليو، لكن قوة من رجال الجيش والبوليس قامت بإطلاق النار على سيارة النحاس لمنعه من مواصلة السير نحو المؤتمر، وحين أصر موكبه على السير هجم عليهم الجنود بالبنادق المدججة بالسونكي، فأصيب مرافقه سينوت حنا أصيب بجروح بالغة في ذراعه، لتندلع مواجهات حادة نتج عنها ـ طبقاً لما يورده المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في الجزء الثاني من كتابه (في أعقاب ثورة 1919) ـ مصرع أربعة مواطنين وثلاثة من رجال الجيش والبوليس وإصابة 145 مواطن بجروح متفرقة.

الملك فؤاد وولي العهد فاروق وإسماعيل صدقي 


وبدلاً من أن تدين حكومة صدقي المذبحة التي حدثت ولو حتى في بيان إنشائي أجوف، أو تعلن التحقيق فيها لامتصاص غضب الجماهير، قام إسماعيل صدقي بتوجيه الشكر لكبير ضباط الجيش الأميرالاي عبد العظيم علي الذي أمر بالاعتداء، ومنحه رتبة اللواء ورتبة الباشاوية في اليوم التالي لوقوع الحادث، وقام بمعاقبة الضابط الصاغ محمد أمين الذي حاول حقن الدماء ورفض استعمال القسوة مع الأهالي في الزقازيق، حيث تمت إحالته إلى الاستيداع، لتندلع مظاهرات غاضبة في عدة مدن من بينها بور سعيد والإسماعيلية والسويس وطنطا، "وكان هذا إغراءً لرجال الجيش والبوليس بأن يمعنوا في الاعتداء والقتل والتنكيل ويتجنبوا الرفق بالأهلين" طبقاً لتعبير الرافعي، لكن أعنف المظاهرات وأكثرها دموية وقع في الاسكندرية يوم 15 يوليو، حيث أسفرت عن عشرين قتيل وخمسمائة جريح ملأوا مستشفيات المدينة، كما ملأ المعتقلون من الوفد ومن غيره أقسامها وسجونها.

حين أعلن حزب الوفد أنه سيعقد يوم 21 يوليو اجتماعاً تحت قبة البرلمان، الذي كان إسماعيل صدقي قد أعلن في يوم 21 يونيو إغلاقه لمدة شهر، قررت حكومة صدقي التصعيد، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية التزام الحياد، إلا إذا تعرضت أرواح المقيمين الأجانب للخطر، وهو ما شجع حكومة صدقي على تحويل البرلمان إلى ثكنة عسكرية، لتنشر بكل الوسائل الإعلامية الممكنة وقتها أن أي محاولة لاقتحام البرلمان كالتي حدثت قبل ذلك بشهر، ستقابل بإطلاق الرصاص هذه المرة.

في تغطيتها للأحداث نشرت مجلة (الرغائب) الوفدية أن "سفاح المنصورة" اللواء الجديد عبد العظيم علي باشا "قال لجمع من الضباط إن حديثا جرى بينه وبين رئيس الوزراء وذُكِر فيه اسم صاحب الدولة النحاس باشا فقال رئيس الوزارة أنه يرجو ألا يفوت اللواء عبد العظيم باشا في مصر ما فاته في المنصورة"، ولذلك قررت الأغلبية الوفدية ألا تمنح الفرصة لإسماعيل صدقي، لكي يقوم بمزيد من القتل المجاني، وقررت إحراج الملك فؤاد بتقديم عريضة تطلب منه دعوة البرلمان إلى الانعقاد يوم السبت 26 يوليو، وهو ما جعل صحيفة (السياسة) لسان حال حزب الأحرار الدستوريين منافس الوفد العتيد، تتهم حزب الوفد بالجبن والتخاذل، بعد أن كانت قد اتهمته من قبل بالتهور وإشعال البلاد، حين قرر الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسماعيل صدقي.

كانت مجلة (الرغائب) حديثة الصدور والتي يمتلك امتيازها عبد الرحيم بدوي ويرأس تحريرها محمد علي حماد، واحدة من الصحف والمجلات الصغيرة التي لجأ إليها الوفد لتعويض النقص الذي حدث في أسلحته الإعلامية، بعد أن تعرضت العديد من صحفه الكبرى للمصادرة والتعطيل، وبرغم أن إسماعيل صدقي قرر أن يدخل في مواجهة عنيفة مع الصحفيين، بشكل فاق بكثير ما سبق أن فعله سلفه محمد محمود قبل عامين في ظل وزارة (اليد الحديدية)، إلا أن (الرغائب) وغيرها من الصحف والمجلات التي صدرت خصيصاً لمواجهة إسماعيل صدقي، لم تنحن أمام بطشه وتهديداته، لتضعه (الرغائب) نجماً لغلاف عددها الثلاثين الصادر بتاريخ 30 يوليو 1930، حيث رسمته على هيئة هيكل عظمي يحلق طائراً فوق سماء مصر، لكنها لم تُسمّه في العنوان الذي اختارته للغلاف، والذي وصف هيكله الطائر بأنه "شبح الخراب والدمار الذي حل بمصر في محنتها الحالية"، كما حرصت على فرملة غضبها فيما نشرته عن إسماعيل صدقي داخل العدد، فوصفته مراراً داخل العدد بلقبه الرسمي المعتاد (صاحب الدولة)، وقامت في أغلب موادها بمهاجمة سياسات وإجراءات حكومته بشكل منضبط، لكي لا تسهل صدور قرار يعرضها للتعطيل أو المصادرة.



في تغطيتها للمظاهرات التي وقعت في القاهرة يوم 21 يوليو، قررت (الرغائب) أن تلجأ إلى أسلوب التساؤل، لكي تمرر عدداً من الأخبار التي منعت السلطة نشرها، فنشرت تحت عنوان (هل هذا صحيح) الأسئلة التالية:

1 ـ هل صحيح أن قتلى القاهرة يوم 21 يوليو كانوا 27 قتيلا؟

2 ـ هل صحيح أنه وجد بين قتلى القاهرة أصيب بسبعة عشر رصاصة في صدره وهل يسمى ذلك تفريقا للمظاهرات؟

3 ـ وهل صحيح أن اثنين من قتلى القاهرة دُفِنا بدون كفن؟ وفي ذلك خروج على الشرع ولما سأل أقاربهما عن مكان دفنهما أجيبوا "منعرفش" وفوق ذلك طردوا من المستشفى وأهينوا شر إهانة، وهل قوانين القصر العيني تسمح بذلك!

4 ـ وهل صحيح أن اثنين من آباء القتلى ذهبا إلى النيابة يريدان رفع قضية على الحكومة فقال لهما سكرتير النيابة: "دي حكومة اسماعيل صدقي يا عم ما تقدروش تاخدوا منها لا حق ولا باطل، أحسن لكم تنفدوا بجلدكم"؟!

5 ـ وهل صحيح أن ضباط الجيش المعسكرين داخل البرلمان ينتهكون حرمة المجلس وأنهم في يوم الخميس الماضي دخلوا قاعة مجلس النواب وجلسوا فيها وقسموا أنفسهم أغلبية ومعارضة ورئيس وسكرتير وزراء! وهل صحيح أنه في صباح الجمعة 26 يوليو سنة 1930 كان بعض العساكر يلعب استغماية في قاعة المجلس! وكل ذلك بتشجيع الضابط الهمام عبد العظيم علي باشا؟

6 ـ وهل صحيح أن المقبوض عليهم في المظاهرات يعذّبون عذابا أليما ويُمنع عنهم الأكل والشرب ويُضربون ويهانون مع أن عقوبتهم هي الحبس البسيط؟

في نفس الصفحة التي نشرت فيها (الرغائب) هذه الأسئلة الخطيرة، أشارت إلى رغبة "صاحب الدولة" إسماعيل صدقي في "القيام بطوفة في المديريات ليخطب فيها"، متحدثة عن قيام دوائر وزارة الداخلية التي كان صدقي يتولى مسئوليتها إلى جوار منصب رئيس الوزارة ووزير الحربية، بالإعداد للزيارة "بتفصيل ملابس للخفراء الأعيان وبإعداد كشوفات بأسماء الأعيان الذين يجب أن يكعّوا ثمن الزينات"، ووجهت سؤالاً إلى الباشا عن زيارته المرتقبة قالت فيه: "نريد أن نسأل الباشا اشمعنى زيارة النحاس مثيرة للخواطر وزيارة صدقي مهدئة للخواطر؟ وهل يا ترى سيطلق الجند على مستقبلي اسماعيل صدقي الرصاص أم سيطلقون الزغاريد؟ وهل سيضرب الهاتفون بالعصي والسنج أم ستنثر عليه وعليهم الزهور؟ وهل سيدعى المرافقون لدولته لزيارة السجون أم سيدعون لأخذ الشاي في دار المدير؟".

في إشارة منها إلى الارتباك السياسي الذي يدور في البلاد، بعد أن قرر الوفد إيقاف التصعيد ومحاولة إدخال الملك في المشهد، كشفت (الرغائب) عن قيام "موظف كبير من موظفي جهة عليا" لم تسمها المجلة باستدعاء عبد الحميد حمدي رئيس تحرير صحيفة (الوادي) وإبلاغه أن الملك قرر دعوة البرلمان للاجتماع في نهاية شهر أغسطس، وطلب منه أن ينشر الخبر حتى لو أصدر ملحقا للصحيفة التي كان قد تم طبعها، وبعد أن نشرت الصحيفة الخبر بالبنط العريض، أصدرت الحكومة في اليوم التالي بلاغا رسميا تقول فيه إن البرلمان لن يدعى للانعقاد، معلقة على ذلك بقولها "بالطبع الموظف الكبير لم يأت بها الكلام من عندياته؟ إذا ماذا حصل! يقول المثل "المركب اللي فيها ريسين تغرق!!" فهل أوشكت مركب الوزارة على الغرق!

ولكي تخفف المجلة من حدة ما نشرته أعقبته بخبر بعنوان (طعمية 21 يوليه) وصفته بأنه "حكاية نرويها على سبيل الفكاهة إن كانت تحلو هذه الأيام وسط أشلاء القتلى وبحار الدماء"، مشيرة إلى أن طباخ أحد وزراء حكومة إسماعيل صدقي طلب من الوزير إحضار أكل لتخزينه قبل يوم 21 يوليو، لأن دكاكين القاهرة ستغلق جميعها في ذلك اليوم، "لكن الوزير شخط فيه وقال إن محلا واحدا لن يُقفل أبوابه وأن الحالة ستكون عادية"، وحين لم يجد الطباخ في يوم الإثنين 21 يوليو محلاً واحداً مفتوحاً، ولكي لا يعود إلى الوزير الجوعان خاوي الوفاض، اشترى طعمية بعشرة قروش من دكان طعمجي كان الوحيد الذي وجده مفتوحاً، فأكل كل منزل الوزير طعمية وقال الوزير "أكلونا الوفديين ولاد الـ... طعمية"، فتعقب المجلة على ما قاله الوزير بقولها "احمد ربنا يا باشا اللي ما أكلتوش حاجة تانية!!".

في صفحة تالية حملت عنوان (طراطير) أشارت المجلة إلى أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ جلس مع وزير من وزراء حكومة إسماعيل صدقي، فقال الشيخ للوزير إنه سمع أن الوفديين ينوون محاكمة الوزراء على تصرفاتهم حين عودة البرلمان، فضحك الوزير طويلاً وقال: "لا يا حبيبي لا هم ولا أعظم منهم يقدروا يحاكمونا، احنا قبل ما ندخل الوزارة واخدين كلمة شرف من اثنين من الكبار خالص (وهنا مد بوزه وهو ينطق بالجملة) بأننا خاليين من كل مسئولية وكل تصرف نتصرفه ونحن متأكدون أن أحدا ما مهما طلع أو نزل سوف لا يسألنا تلت التلاتة كام؟ ثم عاد بعد أن ضحك ضحكة مصطنعة وقال: دا محمد محمود اللي كان يشخط الشخطة تتهز لها شنبات ما قدروش يعملوا فيه حاجة، احنا بنعمل اللي بيقولوا لنا عليه". لتعقب المجلة هذا الكلام بنشر خبر يسخر من أعضاء وزارة إسماعيل صدقي، حمل الخبر عنوان (بلاغ رسمي) وجاء في نصه ما يلي: "تعلن إدارة المطبوعات أن الباشاوات والبهوات إسماعيل صدقي وعلي ماهر وتوفيق رفعت ـ توفيق دوس ـ حلمي عيسى ـ عبد الفتاح يحيى ـ إبراهيم فهمي ـ مراد سيد أحمد وزراء وليسوا بطراطير"، ونشرت في الصفحة المقابلة للخبر رسماً كاريكاتيرياً تسخر فيه من طلبات وزارة الداخلية من الصحف والمجلات أن تعلن أن "الهدوء والسكينة يعمان أنحاء القُطر".



لم تكن مجلة (الرغائب) راغبة في الدخول في مواجهة مفتوحة مع حكومة إسماعيل صدقي الباطشة بكثير من زملائها، دون أن تلتفت إلى شهرتهم ونفوذهم المعنوي، ولذلك قررت أن تتخلى عن الانضباط الصحفي، وتلجأ إلى أسلوب (التلقيح المبتذل) في حديثها عن سفاح المنصورة عبد العظيم علي باشا، لتتهمه ـ بشكل ما ـ بأنه من "الساجدين لغير الله" طبقاً للتعبير الشعبي الذي ظل متداولاً لفترات طويلة، ونشرت ذلك في باب يحميل عنوان (من بئر قذر)، وهو عنوان ينطبق تماماً على تلك السطور التي أنشرها بالنص، والتي تركت (الرغائب) تفسيرها للقارئ العليم بفنون التلقيح ورمي الكلام:

"أُنعِم بلقب الباشوية على عبد العظيم علي بك لأنه حاول محاولته الجريئة ضد زعيم الأمة، فحفظه الله من كيد الكائدين. ومسألة تبويش البيه مسألة طال عليها الأخذ والرد بين الجنود المفتولي السواعد! والآن اسمع حادثة رواها أحد زملاء الباشا في الميدان وذلك في أم درمان.

كان الباشا اللواء ... أفندي ملازم أول وكان يسكن في خيمة خاصة، وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل مر ضابط إنجليزي كان يقوم بالنوبتشية، ولاحظ أن خيمة عبد العظيم أفندي هي الوحيدة التي بها نور وإن كان ضئيلا، والضباط الإنجليز كما هو مشهور عنهم سخفاء (!!) يحبون أن يطلعوا على أحوال الآخرين! ونظر جناب الضابط من خرم في الخيمة فوجد الجندي يصلي وعبد العظيم أفندي يتلقى الدعوات!!

والظاهر أن الضابط كان متعصبا للديانات القديمة بدليل أنه نزع باب الخيمة ودخل فيها، ثم نظر لعبد العظيم أفندي نظرة استنكار وخرج، والظاهر أن عبد العظيم أفندي لم يرق في عينيه أن يخترق أجنبي أمكنة محترمة أثناء القيام بالشعائر المقدسة بدليل أنه أخرج طبنجيته وجرى بها وراء الضابط الذي أطلق لساقيه الريح!! وذهب الضابط الإنجليزي يروي القصة للقومندان، وشاعت القصة في المعسكر وكان المظنون أن عبد العظيم أفندي سيحال على مجلس عسكري ولكن كان لحضرته دالة على كبار الضباط وكانوا يعتبرونه لصغر سنه كأولادهم، فبدلا من أن يحال على الاستيداع نقل الضابط الذي فتن عليه إلى مديرية بحر الغزال. وبعد أن أتم الضابط الإنجليزي مدة الجيش، سافر إلى بلده حيث وضع كتابا سماه "مع المصريين في السودان" وكتب فيه فصلا عن هذه الحادثة، أما الكتاب فقد أرسل نسخة منه إلى عبد العظيم باشا علي، فهل يسمح سعادته بإعارته لمجلة الرغائب لترجمة الفصل المذكور".



لا أدري إلى أي حد أثّر ما نشرته (الرغائب) على سفاح المنصورة، الذي لم أجد في ما لدي من كتب أرّخت للفترة ذكراً لمصيره بعد سقوط حكومة إسماعيل صدقي، ولا أدري إلى أي حد كانت مجلة (الرغائب) صادقة في ما نزحته "من بئر قذر" عن كتاب الضابط الإنجليزي المزعوم الذي ذكرت اسم كتابه، لكنها لم تذكر اسمه، ولا أدري أيضاً هل سكت سفاح المنصورة على ما أصابه من بئر الرغائب، لكن ما أدريه ويدريه كل من قرأوا تاريخ تلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر، أن الشهداء الذين سقطوا في مواجهات عام 1930 على أيدي سفاح المنصورة وزملائه الضباط، لم يكونوا آخر من سقط في المواجهات الدامية التي خاضها المصريون مع حكومة الطاغية إسماعيل صدقي والتي انتهت بسقوط حكومته ودستوره المشبوه الذي حاول فرضه كبديل لدستور 1923، لكن إسماعيل صدقي لم يتعرض للمحاسبة السياسية بعد خروجه من الوزارة، بل وعاد ليرأسها ثانية في فبراير من عام 1946، لتصدق نبوءة وزيره التي سبق وأن نشرتها (الرغائب)، تلك النبوءة التي امتد مفعولها إلى سفاح المنصورة وغيره من سفاحي العهود المتلاحقة، الذين نبهنا الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي إلى قدرتهم على تبديل الوجوه، ونبهنا لاحقاً ـ دون قصد ـ إلى قدرتهم على استخدام الشعارات الوطنية الطنانة في خداع الجميع، حتى ولو كانوا من أعظم الشعراء:

"مأساتنا إن الخونة بيموتوا
بدون عقاب ولا قصاص
مأساتنا إن الخونة بيموتوا وخلاص
بدون مشانق في الساحات ولا رصاص
على كل حال
صدقي ما زال
صدقي على قيد الحياة
بيفجّر الدم النبيل
ويبطش بالاستقلال
ويمرّغ الجباه
تحت الجِزَم والخيل
ويفتح الكوبري علينا
كل صبح وليل".

إسماعيل صدقي عند توليه رئاسة الوزراء للمرة الثانية 
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.