أيها السقف العزيز..

أيها السقف العزيز..

08 أكتوبر 2017
+ الخط -
في جلساتي الطويلة، أثبّت عيني إلى السقف، أنظر إليه من غير ملل، كمرآة، تريني نفسي، تريني حقيقتي أو ما أعتقد أنها حقيقتي، تريني الماضي وما يحدث، دون أن تقدّم لي توقعات عن المستقبل، أنظر إليه كلما ضاق بي الحال، أراه بعيداً عني كأحلامي، وأحياناً قريباً بما يكفي لحمايتي وتحقيق الأمان لي.
هذا السقف الفارغ تماماً هو لعبة الطفلة الوحيدة، هذا السقف، أو المرآة كما أحب تسميتها، سحري كالمرآة في القصص القديمة، فأبدأ بسؤاله: أيها السقف العزيز، من أنا؟ فأراه تحوّل إلى حوض ماء، فيه سمكة ذهبية أو ما يسمّى علمياً الدّرب، وهي من أنواع أسماك الزينة، أتسلّى برؤيتها، أتابع حركتها، إنها أنا، أطير من الأرض إلى السقف، لأكون السمكة التي تتحمّل قلّة الأوكسجين، عمري قصير إلا إذا تمّت العناية بي أسبح وحيدة من دون رفقة، لكني قادرة على تسلية نفسي بالدوران حول محوري، بالارتطام المتكرّر بالحوض، أو محاولة الغرق، فالغرق عند السمكة هو الخروج من الماء، أو باللعب مع من ينظر إليّ خارج الحوض.
في الخارج، يراقبونني أحياناً باهتمام، ويشيحون النظر عني كثيراً، لكنهم يعلمون أني موجودة، حينما أرادوا ذلك، لا أغيب، كيف يمكن لسمكةٍ أن تغيب، فهي ضمن هذا الحوض يُرمى لها بفتات الطعام فتأكل، تتم تدفئة المياه فلا تبرد، يحاولون جاهدين الحفاظ عليها حيّة ترزق، يجيئون أحياناً ويجلسون أمام الحوض يتابعونها بابتسامة لطيفة، تثير الراحة في نفوسهم، ثم ينسونها فورا، ذاكرتهم ذاكرة السمكة، أما هي، فهي تذكرهم تماماً، تعرفهم، حتى أنّها مرات كثيرة تعكس لهم وجوههم على قشرتها الشفافة ما يثير الرعب في نفوسهم، فيرحلون بعيداً.
أعود مجدّداً إلى الأرض، وأتابع حياتي الرتيبة، دراسة أو عمل، أصدقاء، من أنا أعود لأطرح عليه السؤال مجدداً: من أنا؟ فأراه تحول الى حديقة مليئة بالياسمين، أنا ياسمينة، ملكة الزهور، في القديم كانت تزين أطواق الياسمين رؤوس وأعناق الملوك والملكات، رائحتها الفواحة تضفي إحساساً بالراحة والاسترخاء؛ كُتب عنها في كتاب نزهة الأنام: يفوح منها النسيم العابر طيب الريح، ويسري به إلى أماكن أخرى من المدينة.
زهرة قنوعة تتم تغذيتها مرة واحدة في الربيع، و يجب أن تكون التربة رطبة دوماً، وبعيدة عن الهواء، على قدر ما هي نبات راض على قدر ما تحتاج العناية بها إلى دقة، فيفشلون في تحدّي العناية، ليس الجميع قادر على العناية بياسمينة قنوعة ومتطلبة، تناقض يربكها فكيف حال الراغبين فيها، العناية بها تتعارض مع طبيعة البشر الراغب في الامتلاك، فيقطعها، تذبل، تموت.
أسقط مجدداً، وأستمر بالسؤال، أيها السقف العزيز: من أنا؟ وأستمر في البحث عني حتى أجدني في قفص أو بحر أو سماء أو أرض... لا بد أن أجدني يوماً.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)