ابتدأ المشوار.. مَشاهد عراقية

ابتدأ المشوار.. مَشاهد عراقية

01 ديسمبر 2016
+ الخط -

 

بين الساعة الواحدة والثانية ظهرًا في التاسع والعشرين من شهر مايو/أيار عام 2014، وتحديداً في مطبخ بيتنا، كنت جالسة أشاهد برنامجا عن عالم الحيوان، لطالما أحببت ذلك العالم، وتلك البرامج واستمتعت بمتابعتها، ربما لأنها تقدم عالما خاليا من الزيف والخداع؛ لقد ورثت ذلك الحب من عمي أسعد رحمه الله.

المشهد الأول (رسالة)

كان جميع من في المنزل قد ذهبوا لأخذ قيلولة فيما بقيت مستيقظة كما في كل يوم لا تعرف عيني النوم  ظهراً بل وليلاً أيضاً؛ فأنا من أصدقاء الأرق في كل أوقاته. في ذلك الوقت، داعب سمعي صوت الرسائل المحببة إلى قلبي عبر موقع التواصل "فيسبوك"، وإذا بشخص لا أعرفه، قدم نفسه على أنه صحافي يعمل في صحيفة "العربي الجديد"، يدعى محمد عزام. سألني إن كنت أرغب  بالعمل معهم في كتابة تحقيقات صحافية من ديالى، طالباً مني، وفي حال موافقتي، أن أقدم مجموعة اقتراحات ليتسنى لهم اختيار ما يرونه مناسبا منها. وبعدما أعربت عن موافقتي، تم الاتفاق مع الصحيفة على كتابة تحقيق بشأن إبرام عقود الزواج خارج المحاكم العراقية، حاولت جاهدة أن أثبت جدارتي بذلك التحقيق الصحافي، كونه التحقيق الأول الذي أقدمه لـ"العربي الجديد".

المشهد الثاني (فوضى الأحداث)

مضى أقل من أسبوعين على الاتفاق، وكنت قد كتبت التحقيق ونشر في الموقع، حين انهارت الأوضاع في المدينة منذرة بالخطر. هكذا هو الوضع الطبيعي لمدينتنا المقدادية التابعة إلى محافظة ديالى (57 كم) شمال شرق بغداد. خطورة الأوضاع وانهيار الأمن ليس بالأمر الجديد. عناوين الأحداث فقط هي التي تتغير لتبدو جديدة وغير مألوفة. في الحادي عشر من يونيو/حزيران، كانت الأنباء تتوارد عن دخول "داعش" إلى قرى بلدتنا، فيما تجوب المليشيات شوارعنا مع إطلاق شعارات طائفية نسمعها بين الحين والآخر.

في تلك الأثناء، قتل عدد من الأشخاص على يد المليشيات المسلحة بينهم المحامية (نوال)، والتي أجريت معها التحقيق حول تسجيل عقود الزواج خارج المحكمة. الوضع يزداد سوءاً والأحداث تتسارع. طرق تغلق، قرى تقع تحت سيطرة "داعش". مليشيات تتمركز. رقاب تقطع. مساجد تحرق. بساتين تجرف. إلا أننا لم نفكر بعد بالخروج من المدينة برغم كل التحذيرات. اتصل خالي وأخبرنا أن علينا الخروج فوراً بأي شكل من الأشكال والاتجاه نحو البستان. حاولنا لملمة بعض أغراضنا وملابسنا والبحث عن سيارة تقلنا إلى هناك، إلا أن الوقت، وعلى ما  يبدو، قد أدركنا. ولم يعد بإمكاننا الخروج، لأن المليشيات المنفلتة قد فرضت سيطرتها على جميع مداخل ومخارج المدينة.

المشهد الثالث (داخل المستشفى)

مرت أحداث يومين، وكأنها حدثت في شهر كامل. في يوم 14 يونيو/حزيران، كانت الشوارع خاوية إلا من بعض المضطرين للخروج مع سيارات للشرطة وبعض مركبات تحمل عناصر من المليشيات. في تمام الساعة العاشرة من الصباح ذاته، ذهبت مع شقيقتي إلى المستشفى القريب من بيتنا. في باحتها الخارجية، وقع بصري على جثث مغطاة. بقرب كل جثة، تجلس القرفصاء أم ثكلت فلذة كبدها. جثث قضى أصحابها برصاص "داعش" في قرية إمام ويس. وبالرغم من فظاعة المنظر الذي أراه لأول مرة، إلا أن أحدا لا يبالي بالنسوة وهن يجلسن بالقرب من الضحايا يعلو  الحزن محياهن، أم، أخت، زوجة. حاولت إخراج هاتفي لألتقط صورا للمشاهد المروعة، المؤلمة التي أراها أمامي؛ صور لم أكن أعلم بأنها ستكون الأخيرة، وإن هذا اليوم الدامي سيكون الأخير لي في مدينتنا.

انتهت شقيقتي من الحصول على دواء لتسكين ألم الأسنان الذي جئنا من أجله. الأجواء في المستشفى كانت مضطربة مع وصول المزيد من القتلى والجرحى المدنيين؛ فجأة، بدأ هاتفي يرن، وكذلك هاتف أختي. حاولنا أن نرد على المتصل، لكن تعذر ذلك بسبب انقطاع شبكة الاتصال.

المشهد الرابع (باحة المنزل)

في أروقة المستشفى وأثناء خروجنا، تعثرت قدماي بالأسلاك الشائكة ما أحدث جرحا ظل  ينزف. فيما عاود هاتفي يرنّ من جديد. وصلنا إلى المنزل. وكان الجميع في باحته، منهمكين وبخطى سريعة وهم يحملون حقائبهم الصغيرة، يضعونها في سيارة تاكسي، كانوا قد استأجروها وأخرى تعود للعائلة. الجميع كانوا غاضبين من عدم ردنا على اتصالاتهم، حاولنا أن نبرر بأن هناك خللا في شبكة الاتصال، لكن لا وقت للتبرير أصلًا. كان علينا أن نصعد السيارة بسرعة، فقد تغلق الطرق التي فتحتها المليشيات لساعات معدودة. أردت أن أدخل المنزل لأضمد الجرح الذي في قدمي أو أشرب القليل من الماء، ولكن لا مجال لكل ذلك.

في الساعة الحادية عشر والنصف صباحًا، أغلقنا باب منزلنا، وتركنا طعام الغداء على الطباخ قبل نضوجه. كنا نظن أنها أيام قليلة ثم نعود. كنت قد استقليت مع عائلة خالتي سيارة التاكسي، وكان عددنا خمسة. بينما كانت سيارة العائلة مكتظة بضعف عددنا. انطلقنا مسرعين إلى إقليم كردستان العراق، وتحديداً إلى مدينة كلار التابعة إلى محافظة السليمانية، وكان الطقس شديد الحرارة والقسوة.

المشهد الخامس (طريق النفط خانه)

ابتعدنا عن مدينتنا كثيراً لم أعد أرى حتى أطلالها. تحسست جرحي! كان جرح قدمي الذي بقي أثره حتى يومنا هذا اقل ألمًا مما نحن فيه، يبدو أن الجرح توقف عن النزف. كان ضيق المكان في السيارة يزيد من ألم الجرح. زاد الأمر تعقيداً عند وصولنا إلى نقطة تفتيش تسيطر عليها المليشيات مع قوات الجيش والشرطة. طلبوا من السيارات التوقف عن مواصلة المسير. وفيما كان سائقو السيارات يتفاوضون مع الشرطة للسماح لهم بالمرور، اشتد القصف وتطاير الرصاص من فوق رؤوسنا، وحدث اشتباك مع عناصر "داعش"، فطلبوا من جميع من في السيارات النزول والاختباء إلى جانب سياراتهم، إلى حين انتهاء الاشتباك مع "داعش".

 في تلك الأثناء، اتصل بي السيد محمد عزام، كان يريد أن يطمئن عن الذي حل بي، أخبرته بما حصل. كان يوصيني بألا أنقل له الأخبار أو الصور من الشارع، إذا كانت تؤثر على سلامتي ومن معي. بينما كنت أريد أن أقوم بواجبي بنقل الأحداث من ميدان الحدث. كنت اختلس بعض الصور لسيارات كبيرة نوع بيك أب أو سيارات تحمل أناسا نازحين. في تلك الأثناء، جاء القرار من مسؤول نقطة التفتيش بعدم السماح لنا بالمرور، وأن علينا أن نسلك طريق النفط خانة.

كان الجميع يبحث عن قنينة ماء تحت أشعة الشمس اللاهبة في طريق لا توجد فيه لا محال تجارية ولا دور سكنية. كانت الصدمة أكبر حين رفض السائق التاكسي، أن يسلك طريق النفط خانة (طريق وعر ومهجور منذ الحرب العراقية الإيرانية). أنزلنا سائق التاكسي وسط الطريق مع أمتعتنا البسيطة، وبعد مضي وقت استأجرنا سيارة أخرى وبمبلغ مضاعف لأن الطريق وعرّ ومليء بالحفر وصلنا إلى قضاء خانقين، فاعتذر حينها السائق الآخر عن إيصالنا إلى كلار، كان علينا أن نستأجر سيارة أخرى، مضى على خروجنا من البيت أكثر من أربع ساعات، في خانقين اشترينا ماء وبسكويت ومضينا مسرعين. لقد أرهقنا الطريق ولم نصل بعد حيث النزوح.

المشهد السادس (الساعة الخامسة عصراً)

سارت بنا السيارة متجهة إلى مدينة كلار. كان التعب والخوف والإرهاق والجوع والعطش قد أخذ منا كل مأخذ. الشمس هي الأخرى بدت أكثر عطفًا وأخذت أشعتها تخفت ولم تعد قاسية كما قبل ساعتين. لقد ابتعدنا عن الطريق المحفوف بالخطر والرصاص، والذي كاد أن يصيبنا لولا عناية الله ورحمته.

وها نحن على مشارف مدينة كلار. نقطة تفتيش أخرى. استجوابات أخرى. تعطيل آخر، بعدما انتهت إجراءات الدخول، حيث توجب علينا عمل إقامة تمنحنا صفة شخص دخل بشكل رسمي إلى الإقليم. وصلنا كلار في الساعة الخامسة، أي بعد مضي أكثر من خمس ساعات على خروجنا من مدينتنا (المقدادية). نزلنا عند بيت ابن عمي الذي سبق الأحداث واستأجر في كلار حتى قبل دخول "داعش" إلى الموصل. البيت مكتظ بنا، ليس لنا في كلار غير هذا البيت وبيت خالي المهجر منذ ثلاث سنوات، انقسمت العوائل بين البيتين ليبدأ فصل آخر من حياتنا، حياة النزوح.

المشهد السابع (قوري "إبريق" الشاي)

المشهد في منزل كلار ليس غريبًا علينا؛ فنحن كما غيرنا من العراقيين ألفنا جميع مشاهد ومصاعب الحياة. لقد عاد مشهد البيت بذاكرتي إلى الماضي القريب إلى عام 2006 يوم هُجرنا من مدينتنا واتجهنا إلى مدينة الموصل شمال العراق، الضجيج يعم في....

آه.. أعتذر منكم لقد حضر قوري الشاي الآن، وحين يحضر قوري الشاي، والّذي غالبا ما يذكرني بجلوسنا واجتماعنا حوله ونحن نمني أنفسنا باستقرار بلدنا، وجب علي أن أودعكم إلى لقاء آخر مع مدونة أخرى أو مشهد آخر ربما من غير قوري الشاي.

F515B5CE-8486-4DBF-88EF-BE153D2EF378
ميمونة الباسل

صحافية من ديالى "أنتمي إلى حضارة العراق قلباً وقالباً. أكتب من الوطن إلى جميع الأوطان لأنقل صورة العراق كما هي"

مدونات أخرى