الأردن يعلّق المشانق: الثأر بحلّتهِ الرّسمية

الأردن يعلّق المشانق: الثأر بحلّتهِ الرّسمية

07 مارس 2017
(سجن السوقة في عمان، تصوير: خليل مزرعاوي)
+ الخط -
للمرّة الثانية منذُ تجميدِ العملِ بعقوبةِ الإعدام في العام 2006، أعادت الحكومةُ الأردنيّة تعليقَ المشانق، ورفعت بذلك مجدّدًا أصواتًا تطالبُ باستمرارِ العملِ بها، وأخرى تراها انتزاعًا لحقّ الإنسانِ في الحياة، وأسلوبًا لم يُثبت يومًا جدارته بمُحاربةِ الجريمة، خصوصًا أنّ العالمَ لم يعش يومًا بلا جريمة، رغمَ كلّ أساليب الإعدام الوحشيّة الي استُخدمت عبر العصور.

في دولةٍ يُعاني شعبها من تردّي الأوضاعِ المعيشيّة، وارتفاع معدّلات الانتحار خصوصًا بين الشباب، وانخراطِ عددٍ آخر منهم بتنظيماتٍ متطرّفة تُقاتل في سورية والعراق، أو على شكلِ خلايا نائمةٍ هنا، اختارت الحكومةُ خمسةَ عشرَ محكومًا لتجعل من إعدامهم ورقةً ترميها في وجهِ كلّ الأسباب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي تُشكّلُ دوافعَ أساسيّة لارتكابِ الجريمة، مُعتبرةً أن تركَ الجُناةِ من دون عقابٍ رادعٍ، يعد عاملًا مساعدًا لانتشارِ الجرائم، الأمرُ الذي كان يجبُ عليها أن تتكلّف عناءَ إثباتهِ، من خلالِ دراساتٍ وبحوثٍ وإحصاءات على مدارِ السّنواتِ العشر التي جُمّدت فيها العقوبة على الأقل؛ لتُقنعَ الأصواتَ المندّدة بوجهةِ نظرها، أو لتتمكّن من الردّ عليها استنادًا إلى منهجيّة تفكيرٍ يُمكن الوقوفُ عندها والتماس نقاط قوّتها وضعفها، والجديد في طرحها.

تفرضُ "العقوبة القصوى" نفسها في 23 نصًا من القانون الأردني، ولكنّ على المشرّع أن يبحثَ أكثر وأعمق فيما إذا كانت هذه العقوبة يجب أن تكون الموت، كعقاب ملائم للجريمةِ يجعلُ فكرة العملِ الإجرامي غير مغرية.

هذا المدخلُ تحديدًا، ناقشهُ المفكّر الفرنسي ميشيل فوكو، في كتابه المراقبة والمعاقبة، معتبرًا أن الخشيةَ من العقوبة؛ تستبعدُ فكرةَ الذهاب في الطّريقِ الذي يؤدّي إلى "جريمةٍ مُربحة"، وأنّ استخراج الجُرمِ من العقوبةِ هو أفضلُ وسيلةٍ لجعلِ العقوبةِ مناسبةً للجريمة، بحيث يتحقّقُ انتصارٌ للعدالة وللحريّة أيضًا، ولا يمارس الإنسانُ عندها عنفًا على الإنسان بحجّة تطبيقِ العدالةِ والقانون.

هذه الجزئيّة تُحيلنا للتساؤل عمّا إذا كانَ الإعدام فعلًا عقوبةً رادعةً، وتضمنُ تحقيق العدالة والحريّة على حدّ سواء، وهو ما يجيبُ عنه ألبير كامو، الذي بحث في "المقصلة" عن إثباتٍ واحدٍ يشيرُ إلى تراجع مجرمٍ ما عن ارتكابِ فعلته خوفًا من الموت، ولم يجد. الاعتقادُ بأن غريزة الحياةِ عند الإنسان، كفيلةٌ بتوليدِ الخشيةِ من عقوبة الموت، تُغفل بشكلٍ لم يعُد مقبولًا مع كلّ هذا التقدّمِ في البحوثِ النفسيّة والاجتماعيّة، أنه ثمّة غريزةٌ أُخرى على النقيض تمامًا، وهي الميلُ لهدمِ الذّات؛ إمّا بالانتحار أو إيذاء الآخرين، بالاعتداء عليهم جنسيًا أو معنويًا أو حتى بقتلهم، وهي غريزةٌ تعملُ بشكلٍ مضاد تمامًا لما يذهب إليهِ المُشرّع، إضافةً لبروزِ مشاعرَ مختلطةٍ لدى البشر، قد تطغى أحيانًا على التفكير في الموت والرّهبة منه، كالغيرة والثأر والغضب.

أبحاث كامو حولَ الإعدام، تشير أيضًا إلى أنّ المجرمَ غالبًا ما يرى نفسه بريئًا، أو على أقل تقدير سيحظى لسببٍ أو لآخر بعقوبةٍ مُخففّة، وهو شعورٌ يمتدُّ منذ لحظة إقدامهِ على الجريمة وحتّى صدورِ الحُكمَ في حقّه، ممّا يعني أنّ الخوف من الموت، لم يكن يشغلُ حيزًا كبيرًا من تفكيرهِ عند عقده النيّة لارتكاب فعلته.

ثمّة مشكلةٌ أخرى يُغفلها مؤيّدو القتل باسم القانون، وهي أنّ مجرمينَ يحاكمون بتهمة الإرهاب، يسعونَ أصلًا للموت (الشّهادة) وبالتالي لا يُمكن أن يكونَ الإعدامُ في حالتهم عقوبةً، بقدر ما هو تغييرٌ طفيفٌ طرأ على الآليّة التي يسعون فيها للموت.

الوقوف ضدّ عقوبة الإعدام، لا يعني إعفاء المجرم من العقوبة، فالموتُ ليس بالعقوبة الوحيدة المُتاحة، وأحيانًا لا يكونُ عقوبةَ أصلًا، وتطبيقها لا يُعفي الدّولة من المسؤوليّة عن تعزيز وحشيّة الإنسان، وأنّ الفقر وعدم تكافؤ الفرص وانعدامُ أيّ بادرةِ انفراجٍ في الأفق، كلّها عواملُ تتحمّل الدّولة مسؤوليتها، وما ينتج عنها من زيادة طرديّة في معدّلات الجرائم.

إذا قامت مراكز الإصلاحِ والسّجون بدورها الإصلاحيّ فعلًا، وليست كمُنظّمات قائمة على التّعذيب وهدم الإنسان، وإنتاج صورةٍ أكثر وحشيّة من تلك التي ألقت بالمُدانِ في السّجن، فربّما تكونُ مصادرةُ الحريّة عقابًا أكثرَ جدوى لكلّ من تسوّل له نفسهُ ارتكابَ جريمةٍ ما، كما تسمحُ بتجنبِ الحكمِ على إنسانٍ ومُعاقبتهُ بشكلٍ مطلق، خاصّةً مع احتمال أن يكون بريئًا كما حدث في قضيّةِ "بارتون آبوت" الشهيرة، حيثُ أعدم المتّهم قبل دقائقَ فقط من اكتشافِ براءته.

عدا عن استحالةِ التأّكد من عدم وجود فرصةٍ لإصلاحِ الفرد أو أنّهُ لا يمكنه التكفير عن ذنبه. ربّما لو تأخّرت تلك السيّدة الإيرانيّة في العام 2014 لدقيقة واحدة عن الصّفح عن قاتل ابنها، عبد الله حسين زادة، لماتَ المذنبُ وبقيت هي نادمةً تُسائلُ نفسها لماذا تأخرت وتسبّبتُ في قتلِ أحدهم، وهي التي وُجدت العقوبة لـ "إراحتها" بحسب مفهومِ القصاص.

المساهمون