الأغنية السوريّة الحزينة

الأغنية السوريّة الحزينة

24 فبراير 2018
+ الخط -
تضع أغنية لتسمعها. "البيتلز" كانوا روّاداً في أغانيهم وألبوماتهم. كانوا ثوّار موسيقى بحقّ في زمن غابر. يخرج الصوت من الأغنية: "هاي جود، لا تجعل الأمر سيئاً، خذ أغنيةً حزينةً، واجعلها أفضل، تذكّر: دعها تلج إلى قلبك، حينها تجعلها أفضل". "هاي جود" ليست مجرّد أغنية عادية، بل أقصوصة يومية، مع أنها أغنية قديمة، ربما تعود إلى الستينات من القرن الماضي. أي إلى زمنٍ لم يكن هناك صراخ أطفال في دولنا العربية، سوى في فلسطين واليمن إلى حدّ ما. يمكن للأطفال، في أيامٍ بعيدة، احتضان الأغاني والرقص على إيقاعها في رؤوسهم ودواخلهم. لن يشعروا بالموت يقترب منهم، ولا بالحياة تُسلب منهم. يمكنهم الاسترخاء طويلاً، لجعل كل شيء أفضل، من أغنيةٍ حزينةٍ إلى عالم واسع. كان الزمن زمناً، وكان الموت ميتاً.
لم تكف عشرات العقود لإنهاء حزن الأغنيات والأطفال. كان لا بدّ من قهر هؤلاء وقتلهم، في أسرّتهم وبين أيدي أهاليهم، فقط لأن "السياسة تقتضي"، و"لأن القادة يريدون البقاء على قيد الحياة"، و"لأن المجتمع الدولي لا يهتم لبضعة أطفال وأفكارهم". يريد الجميع نسج الفرح في السياسة والاقتصاد والمال على ألحان أغنيةٍ حزينةٍ تعزفها أجساد أطفال يُقتلون كل يوم في سورية، من حلب إلى دير الزور إلى إدلب إلى الغوطة الشرقية، إلى سورية، إلى كل بقعةٍ من بلاد الـ185 ألف كيلومتر مربّع.
لا بدّ أيضاً أن يخرج من هذا الكويكب من يرى أن مقتل الأطفال من أسباب اتخاذ البعض لهم دروعاً بشرية. لا أحد يريد تحمّل دفع أثمان الضمير الذي إن مات، أضحينا غير بعيدين عن أجناس حيوانات عاشقة للدماء. وجد هذا الضمير نفسه مقتولاً على قارعة طريقٍ في الشرق الأوسط. على رصيفٍ لا يشبه سوى ناسه. لم نكن نحتاج إلى إثبات دوريّ، للإشارة إلى عدم خروجنا من غريزتنا. نريد الغريزة أن تقتل الوعي والضمير والإنسان فينا. نحن كالزومبي، والزومبي لا إحساس له. ليس القاتل مجرّد فردٍ أو جيش يحمل سلاحاً يقتل به الآخر، بل كل من يؤيد هذا النوع من القتل، وهذا النوع من انتحار الضمير. والأنكى أننا، بعد ذلك، نخلد إلى النوم، وكأن شيئاً لم يكن، وندخل إلى معابدنا الدينية، ونصلّي لإلهٍ يرفض هذا الدمّ المُهرق بإسمه.
هذا ما أصبح عليه الشرق الأوسط. مجرمون يتنقلون بأسلحتهم، يقتلون بها كل من يصادفونه أمامهم. لا قيمة للطفل في شرقنا. كل المجازر الدموية تشهد على ذلك، من مذابح الحروب في لبنان والعراق إلى المذابح السورية. هناك من يرفض للأجيال الجديدة أن تعزف أغنيتها بفرحٍ. يريدون ممّن نجا من الحروب البعيدة، حين كان طفلاً، أن يشهد على مقتل أطفالٍ في حروبٍ لاحقة. الضمير مقتول، ونحن مقتولون معه. نجونا سابقاً لأن غيرنا قُتل عنّا أو بدلاً منا. وننجو اليوم لأن غيرنا يُقتل أمامنا، ونحن عاجزون عن حمايته، ورفعه من بؤس الموت.
لا ذنب لهؤلاء الأطفال. ليسوا سوى حيواتٍ أتت إلى العالم راغبةً بأن تعيش كغيرها من أطفال الكوكب، بسلامٍ وأمنٍ. هناك كبار يريدون أن يُصلب الأطفال تطبيقاً لشريعة "إشباع غرائز عالم ميّت". أطفال ليسوا ضحايا، بل أضحية تمّ تقديمها إلى من كان يرغب أصلاً بعدم ولادتهم. لا يحقّ للأطفال أن يكونوا أطفالاً في شرقنا البائس.
تنتهي الأغنية. أطفئ الموسيقى. ما زلت أردّدها في رأسي. الصور تتلاحق. أطفال مكفّنون بثياب بيضاء. الجميع يريد استغلال موتهم. الأغنية تنتظرهم، والشرق أيضاً. لا على ناصية الحلم فحسب سيقفون، بل على ضفاف نهر الشرق القاني. يخرج الصوت من الأغنية: "هاي جود، لا تجعل الأمر سيئاً، خذ أغنيةً حزينةً واجعلها أفضل، تذكر: دعها تلج إلى قلبك، حينها تجعلها أفضل".
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".