الانسداد في الجزائر والمخرج الممكن

الانسداد في الجزائر والمخرج الممكن

10 يونيو 2019
+ الخط -
استقبل الجزائريون خطاب رئيس بلادهم المؤقّت، عبد القادر بن صالح، في ثالث أيام عيد الفطر، بمزيد من التوجّس، فلم يطرح أيّة بدائل للانسداد الحاصل منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، تاريخ بدء الحراك، كما أنه لم يقدّم حلولاً للخروج من قرار المجلس الدستوري إبطال انتخابات 4 يوليو/ تموز الرئاسية. وخرج الجزائريون، للمرّة 16، للتّعبير عن ذلك الامتعاض من إطالة أمد الأزمة من خلال بناء استراتيجية استعصائية بإرادة البقاء/ الإبقاء على النّظام، في ظلّ فرض مؤشّرين، إلباس الوضع السياسي الانسدادي لبوس الدستورية الحرفية، والإصرار في عدم الذّهاب بعيداً في إيجاد أجواء الثّقة بين الحراك، بكلّ مكوّناته وأطيافه السياسية والاجتماعية، والمؤسّسة العسكرية، صاحبة الفعل السياسي في البلاد، منذ استقالة الرئيس السّابق، عبد العزيز بوتفليقة.
يتأرجح النّظام في الجزائر، من خلال المؤشّرين المذكورين، بين وضعين، أولّهما قانوني - قضائي، يتضمّن إرادة محاربة الفساد والإسراع به، في خطوة يراها كفيلة بتسوية وضعٍ يريد له التوازن في إطار لعبة سياسية، كثيراً ما تجري في الجزائر، ويلعب التوازن فيها بين مختلف الفرقاء دور الرّهان الذي يمكنه قلب الوضع لصالح أحدهم. والثّاني دستوري - سياسي بحت، رسم النظام لنفسه في إطاره خطوطاً حمراء، لا يرى من خلالها الحلّ إلاّ دستورياً عبر تفعيل مواد دستورية بعينها، حتّى، كما يقول، بلسان قراراته، يضمن عدم الانخراط في السياسة، بالنسبة للجيش، من ناحية، والبقاء في إطار الدستور، من ناحية أخرى. ويصنع كلا الوضعين، القانوني- القضائي والدستوري- السياسي، الجمود الذي أصبح يتطلّب، الآن، ولزاماً، أن يتحرّك الجميع صوب إنضاج الحلّ أو الحلول التي وصفها قائد أركان الجيش، أحمد قايد صالح، ورئيس الدّولة المؤقّت، بأنّها ضمن المطالب المشروعة.
يؤكّد ذلك التّأرجح مضمون خطاب الرّئيس المؤقّت أخيراً، والذي يصرّ على آلية الحوار، 
متماهياً في ذلك مع خطابات قيادة الأركان ومواقفها، وهي آلية جيدة، بل وحيوية، كما يستمرّ ويصرّ على أنّ الرّئاسيات هي الحلّ الأمثل للانسداد، وهذا ممّا يتفق معه الحراك ويُرفع مطلباً، كل جمعة في شعارات الجزائريين. لكن، وهنا مربط الفرس، لا يكون الحوار إلاّ مع من تختلف معه في الرّؤى وفي مسارات الحلول، كما أنّ الرّئاسيات لا يمكن أن تجري والنظام محتفظ برموزه، آلياته ونخبه، ينافح بها، بالرّغم من الفسـاد والفشل، عن خريطة طريق لا تمثّل الحلّ، بل هي إشكالية لارتباطها، أساساً، بالطّبيعة الاستعصائية للنظام الجزائري عن التّغيير. وتحتاج لذلك، رسم خريطة طريق توافقية، تخرج من رحم تفاوض حقيقي تُوضع فيه، على الطاولة، كل المسائل خدمةً لسلّتين من الأهداف، أولاهما إجرائية بقصد تنظيم الرّئاسيات، والأخرى، بعد الرّئاسيات، في تفاصيلها، رسماً لمستقبل النظام السّياسي، وبناءً لسيناريوهات مستقبل المكانة الجزائرية في الإقليم، غرب المتوسـّط والمنطقة السّاحلية - الصّحراوية.
في هذا الإطار، هناك عرضان، الآن، على طاولة ما أطلق عليه الرّئيس المؤقت "الحلّ التّوافقي"، أي التّفاوضي، واحدٌ من الحراك يمكن جمعه من شتات ما عُرض من مبادرات، وخصوصاً منها التي تقدّم بها أخيراً الوزير الأول السّابق، مقداد سيفي، أو العلماء الأجلاّء قبلها، وعرض آخر تقدمت به قيادة الأركان، يُستنتج من خطابات قيادة الأركان ورئاسة الدّولة، لينطلق، بذلك، مشوار طويل من الحوار/ التّفاوض، تنتهي فصوله بتسويات/ تنازلات، وهذه عبارة وردت في خطاب قائد الأركان أخيراً، من كل طرف، بما يكفل فتح الباب، واسعاً، أمام حلّ للانسداد الحاصل منذ أربعة أشهر.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على حيوية عامل الوقت، بعد قرار السلطة رفض المرحلة الانتقالية، وإن كان ذلك رفضاً معنوياً لغوياً، باعتبار أنّ عدم إقرار تاريخ جديد للرئاسيات المقبلة، والدعوة إلى الحوار/ التفاوض، يتضمن، حتماً، تهيئة للأجواء قد يذهب، على أقل تقدير، إلى ما بعد العطلة الصيفية، أي بعد شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، لأنهما شهرا عطلة.
هناك إيجابيات يمكن التقاطها من عرض السلطة، فالقبول بآلية الحوار/التفاوض، والحديث عن "تنازلات" من الطرفين يؤكّد انفتاحها على عروض الحراك (طبقة سياسية، مجتمع مدني وشخصيات وطنية)، بل يمكن الانطلاق من عرضها لفهم المسكوت عنه، أي خارج ثوابت الرئاسة المؤقّتة والرئاسيات، لتقديم عرض مقابل، قد يكون ما قدّمه به سيفي ما يغني، إذ اقترح 
حواراً يجب أن تقوده شخصيات ونخب وطنية مع المؤسسات القائمة، وبمرافقة الجيش الوطني، ضمن شروط الحيوية، وهي التنازلات المتبادلة التي تتكلم عليها قيادة الجيش الوطني الشعبي، وهي: الاستقالة الطوعية للوزير الأول، ولكل وزرائه فردياً. كما اقترح، في الوقت نفسه، أنّه إذا كان رئيس الدولة لا يمكنه إقالة الحكومة أو تغييرها، فليس هناك ما يمنع في الدستور من أن يستقيل الوزير الأول، أو أي وزير، بصفة فردية. وقبل استقالة أي وزير، يعين رئيس الدولة أميناً عاماً لكل وزارة لتسيير الأمور الجارية، وهكذا يتنحّى كل أعضاء الحكومة، من دون الحاجة إلى إقالتها، ويكلف رئيس الدولة الأمين العام لرئاسة الجمهورية بتولي التنسيق.
وجاء في مبادرة سيفي وجوب تغيير رئيس المجلس الشعبي الوطني، وهو ما يمكن أن تقوم به أحزاب الأغلبية في المجلس، تغيير الولاة المُعيّنين من النّظام السابق، تغيير النواب العامين ورؤساء المجالس القضائية المتورّطين مع النظام السابق، تغيير مسؤولي المؤسسات المالية العمومية والمدراء العامين لوزارات المالية والتجارة والصناعة المتورّطين مع النظام السابق، إضافة إلى وجوب إطلاق سراح كل سجناء الرأي المحبوسين. أمّا الإجراء الذي يضمن الثقة، ويكون عاملاً لإنجاح الحل المقترح فهو تعيين رئيس الدولة، بالاتفاق مع قيادة الجيش الوطني الشعبي، ثلاث شخصيات وطنية مستقلة عن الأحزاب وعن النظام السابق، تُكلف بالتحاور، نيابة عن مؤسسات الجمهورية، مع ممثلي الحراك الشعبي، وتحدّد هؤلاء الممثلين الشخصيات الوطنية الثلاث من النقابات المستقلة وجمعيات الطلبة والمحامين والقضاة والصحافيين والمنتديات الشعبية. ولا تشرك الأحزاب في الحوار مع الحراك المواطني، ولكن تستقبل الشخصيات الثلاث زعماء هذه الأحزاب، باستثناء ما تسمى أحزاب التحالف الرئاسي القديم، كل حزب على حدة، للتعرف على آرائهـا واقتراحاتها.
تتضمن المبادرة، إذا وُضعت في مقابل عرض الرئاسة المؤقتة وقيادة الأركان، إمكانية لمسار
حل توافقي، إذ لا ترفع السقف عالياً، بل تنطلق من الخطوط الحمراء التي لا تريد السلطة الابتعاد عنها، وتبني عليها الاقتراحات الإجرائية التي ستكفل، حتماً، إيجاد عوامل: الثقة والحياد والشفافية، في سبيل رئاسيات نزيهة تليق بالهبة الحضارية والسلمية التي تميز بها تعامل كل من الحراك والسلطة، كلاهما، مع الأزمة منذ انطلاقها. كما أن تلك المبادرة تتضمن إجراءات ممكنة التجسيد، ومنها زوال رموز النظام السابق أو الصّفوف الأولى من أولئك السياسيين، وزراء، ولُاة (محافظي مدن) ورؤساء مؤسّسات سياسية يثبُت في حقّهم الفساد أو الفشل في التّسيير، ما سيكفل، للتأكيد، مرة أخرى، بإيجاد أجواء "الحياد" و"الشفافية" فيما يخصّ الموعد الانتخابي المقبل.
هناك، بالنتيجة، إمكانية للخروج من الانسداد وبناء الجمهورية الثانية، كما سيكون ذلك كفيلاً بالاتجاه، بعد الرئاسيات، إلى ندوةٍ جامعة، ستفكّر في تصوّر طبيعة النّظام السّياسي المقبل، ورديفه، المحتّم، بالنظر إلى مقدرات الجزائر وإمكاناتها، التّفكير في استراتيجية مكانة البلاد الإقليمية والدولية في غرب المتوسط والمنطقة السّاحلية - الصحراوية.
هناك مخرج، بل مخارج. وهناك حل، بل حلول. ويكفي، فقط، إيجاد الإرادة، من الطّرفين، الحراك والسلطة، لاستيفاء شروط تفعيل ذلك، والانطلاق في فضاء مستقبل رحب، يليق بالجزائر.