الثقب والخيط

الثقب والخيط

10 مايو 2018
+ الخط -
وأنا أمشي خلفها صعودا في تلك المنعرجات، كانت قامة أمي ونحافتها تخفي قمة الجبل "لَخْضَرْ" وعظمته وجلال قدره والأشجار التي فيه. أكره كلمة أتان، لأنها لا تستوعب لغتي، أُفضل عليها الحِمَارة ربما لأنها هي الأقرب، لا أحد في تلك القرية البعيدة يُسَمّي الحمارة بالأتان. وعندما أذكر تلك الصورة الجميلة التي تحتفظ بها ذاكرتي عن تلك المسارب والممرات الشائكة وقبة "سيدي أحمد بن هَدّي" والوادي الناشف وصيد القُبَّرَات، أقول كيف لقامة نحيفة كالعود أن تخفي قمة الجبل.
بين الوجوه الهائمة، كنت أراها في "الفيلاج"، هي أُمي بالتمام والكمال لا ينقصها شيء، تمشي متمايلة غير آبهة، وعلى الرحب والسعة كعادتها ترفع رجلا وتضع أخرى، والريح تعبث بشراعها تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف، وأجد نفسي متوهما وحيدا أعانق الفراغ، وتختفي "النوالة" المبنية بالقش من أمامي والحوش الذي يُمَنطِقُها إلى الأبد. وأنا أمشي خلفها في ذلك الوقت، كانت أصوات المتهكمين تصفعني من كل الجهات كحبَّات البَرد، أراهم يقولون: "لا يمشي خلف أمه إلا الجحش".
تبتلع أمي الطعم كأتان بالغة ألفت النغز واللكز والعثرات، ولا يعنيها بالمرة ما يقال، بينما أحيد أنا عن المسرب وأجلس وسط الأشواك لائذا بالبكاء. تربت المسكينة على كتفي وتمدني بقطعة سكر أو كسرة خبز مغموسة في الزيت وتحت ظل حائط الحوش أو في صدر"النوالة أم ُّ قُبْ" ، تقول لي: "بعد هذه الغيبة الطويلة... لابد لأبيك وأن يُطِل ويرمي برجله من باب الحوش".
عِشْتُ معطفا ذابلا على ظهور الأجاود كالجِراب من دون أب، في "فيلاج الضاية" تسعفني علاقاتي القديمة، الخبز يأتي، لا مشكلة لدي من هذا الجانب، والتحايا والسجائر والأيام، ما يميزني عن البقية لقبي القديم "اللقلاق" كما معطفي الأسود الذي أكل منه الزمن. لست أدري، لماذا الأشياء التافهة كهذه تطاردني وترميني بهدلة؟ الخبز يأتي، وجثة سؤال يلفظها نهر ذاكرتي العميق، طافية من بين أسئلة أخرى غابرة في القعر، هل أنت عائشٌ؟ هل تحيا أيها "اللقلاق" الشريد بالخبز والتحايا والأيام والسجائر! وانتظارك البعيد والمزمن، وقد غزا الشيب من شعر رأسك، أبوك لم يرم برجله من باب الحوش، نَسِيتَ قطعة السكر وكسرة الخبز المغموسة في الزيت وظل حائط الحوش وصدر" النوالة أم ُّ قُب"، وتلك الأيام، من يرمي "النوالة" بالحجر، كانت تجيبُ، أمك، باقتضاب، السماء يا ولدي.
المهنة التي أتقنها، التزلف، "الضاية"، مدينة صغيرة، كلها عشائر وعائلات وأوحال، بين بني كذا وآل كذا، لا ضفادع تنقنق خارج البركة، سألت صديقي الخراز، من أي عشيرة أنت؟، قال لي: من عائلة الثقب والخيط . وعندما أخيط الجلد مع بعضه ساعتها لا أبحث له عن نسب.
تذكرت وأنا أمشي خلفها نزولا، تختفي من أمامي قامتها النحيفة، وأبقى حائرا، وجها لوجه مع الهوة السحيقة للوادي الناشف، تلتفت إلي وتنتشلني، على مهل! هي ما تبقى من امرأة قديمة تعيش زمنها القريب، على مشارف المنحدر، سعيا بين فم الحوش وفم"النوالة أمُّ قُب" ترقب طلوع شمس يوم جديد من أرض بادية، لعل المسارب تلوح لها يوما من بعيد بشبح جحش.
64482E8B-AD21-4651-946E-D8BFF261423E
64482E8B-AD21-4651-946E-D8BFF261423E
عبد القادر لحميني (المغرب)
عبد القادر لحميني (المغرب)