الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير

الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير

14 أكتوبر 2016
+ الخط -
قبل أيام، قمعت قوات الأمن الفلسطيني مسيرةً نظّمها أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في رام الله، تنديدًا بمشاركة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بمراسم تشييع الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز. وقبل يوم على قمع سلطة أوسلو مسيرة الشعبية، صرّحت القيادية في الجبهة، خالدة جرار، بأن القيادة التي تشارك في جنازة بيريز لا تمثل الشعب الفلسطيني.
وسبق ذلك كله بأيام إصدار اللجنة المركزية لحركة فتح بياناً دافعت فيه بشدة عن لقاء جمع عباس بوفدٍ من المنظمات اليهودية الصهيونية في المكسيك، ردًا على بيان صدر عن الجبهة الشعبية دان اللقاء. ووصلت مركزية حركة فتح في دفاعها عن رئيس الحركة إلى حدٍّ وصفت فيه لقاءات قياداتها بفعاليات صهيونية داخل إسرائيل وخارجها شكلاً من أشكال النضال التي لا يُعقل أن ينكرها أحدٌ على الحركة، بحسب البيان. واعتبرت "فتح" أن نشاط رئيس ما تسمى لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي في منظمة التحرير، محمد المدني، "دقٌ لجدار الخزان"، في استعارةٍ أقل ما يقال عنها إنها رخيصة ومبتذلة لعبارة الأديب الشهيد غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس"، والتي كانت منذ أطلقها، نهاية ستينات القرن الماضي؛ صرخةً ضد الخنوع والاستسلام لا تبريرًا له. وكأن هؤلاء لم يكتفوا بتشويه حاضر الشعب الفلسطيني، حين تنازلت قيادتهم (هم) التاريخية، باسم الشعب الفلسطيني، عن معظم أرض فلسطين التي لا تمتلكها، وقدمتها لمن لا يستحق، علاوةً على تنسيقهم الأمني مع الاحتلال وممارسة الفساد
والإفساد الممنهج، وبناء علاقات التطبيع مع العدو وترويجه عربيًا؛ لم يكتفوا بذلك، بل يريدون أن يمرّغوا زمن صعود المقاومة الفلسطينية ورموزه وأدبياته بوحول زمنهم الهابط.
وإن كانت هذه الاستعارة الخائبة أشدّ ما لفت انتباه المعلقين في بيان "فتح"، إلا أن النقطة الأخطر والأهم كانت في تأكيده، وإن بشكل غير مباشر، على المشروع السياسي الذي حملته القيادة الفلسطينية منذ عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي يختصِر حقوق الشعب الفلسطيني فقط بدولةٍ على حدود 1967، حيث اعتبر البيان أن حل الصراع، بناء على فهم قيادة فتح قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في دوراته المتعاقبة، مروراً ببيان الاستقلال، 1988، وقرارات الشرعية الدولية القائمة، يكون "على أساس انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة عام 67 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية"، متجاهلةً تماماً حق العودة، بعد أن أسقطته عمليًا قيادة فتح ومنظمة التحرير، عندما تبنت الصيغة الخبيثة للمبادرة العربية للسلام التي نادت بحل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، على أساس قرار 191 عوضاً عن المطالبة بتطبيق القرار الأممي بشكل كامل.
كان بيان "فتح" معبراً بصدق ووضوح عن طبيعة القيادة الفلسطينية، وبرنامجها السياسي، سواء من حيث دفاعه عن عملية التسوية، لا بل واعتبار ما تمخّضت عنه إنجازًا وطنيًا، أو تسويقه للتطبيع مع الاحتلال والمنظمات الداعمة له دوليًا.
من هنا، تأتي مشاركة محمود عباس وقيادة "فتح" والسلطة والمنظمة في تشييع بيريز في سياقٍ طبيعي يعبّر عن مشروعها السياسي المعروف، ولا يستدعي أي دهشةٍ أو استغراب. ما يثير الدهشة بحق عدم اتخاذ المعارضة، وتحديدًا هنا الجبهة الشعبية، أي إجراء حقيقي وملموس، ردًا على كل خطايا هذه القيادة التي ارتكبتها بحق القضية الفلسطينية ربع قرن، ثم الانتفاض أمام مسألة رمزيةٍ، كالمشاركة في تشييع بيريز، المدانة بلا ريب، واعتبار أنها تُسقط تمثيل "القيادة" الشعب الفلسطيني!. ألا يكفي "أوسلو"، والموقف من قضية اللاجئين، والتطبيع والتسويق له، والتنسيق الأمني، في نظر الجبهة الشعبية اعتبار تمثيل القيادة للشعب الفلسطيني ساقطًا؟.
وتجب الإشارة، هنا، إلى أن الانتفاض والغضب "الجبهاوي" كان "شعاراتياً"، فلم يصدر أي موقفٍ جدّي تجاه "القيادة المتنفذة" بمستوى الخطاب الحامي، ومن غير المرجّح أن يصدر.
منذ انضمام الجبهة الشعبية إلى منظمة التحرير، أواخر ستينات القرن الماضي، نظرت إليها باعتبارها منجزاً وطنياً للشعب الفلسطيني، لا يجوز التفريط به، على قاعدة أن وجود كيان سياسي يمثل الشعب الذي طُرد بمعظمه من أرضه، وبات يعيش حالة شتاتٍ داخل الأرض المحتلة وخارجها؛ هو أمر حيوي للحفاظ على الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، ومنع ضياعها وذوبانها في المجتمعات التي هُجّر الفلسطينيّون إليها. وبالتالي، كانت المنظمة ضرورةً لمقاومة الأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل، كما سعت إلى تطويرها إطاراً وحدوياً، يجمع جهود المنظمات الفلسطينية في إطار برنامج سياسي وكفاحي واحد.
كان هذا التشخيص دائماً المحدّد لعلاقة الجبهة الشعبية بمنظمة التحرير، ولم يخضع لأي مراجعةٍ طوال نحو خمسين عاماً، وحافظت على وجودها في المنظمة، وإن بمستوى تمثيل متدنٍّ، حتى في أشد محطات الخلاف مع قيادتها المهيمنة.
لكن، حين تتنازل قيادة المنظمة المهيمنة عن معظم الأرض التي أُسِّسَت من أجل تحريرها، وتسير باتجاه إسقاط حق العودة بالتآمر مع النظام الرسمي العربي، هل لازال هذا الفهم للمنظمة ودورها التاريخي في محله؟ هذا ليس سؤالاً موجهاً، يقود إلى إجابةٍ محدّدة، بل هو دعوة إلى
القيام بمراجعةٍ للمبدأ الذي استندت إليه الجبهة في دخولها المنظمة، هل لايزال صالحاً أم تجاوزه الواقع؟ هل مازالت المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، وتعمل على صون هويته الوطنية، وهو الهدف الوحيد الباقي، بعد أن أسقطت القيادة المهيمنة هدف التحرير، أم أنها تتحلّل من هذه المهمة، كما تشير شواهد كثيرة؟
وحتى إنْ خلصت مراجعةٌ من هذا النوع إلى أن هذا الفهم لايزال صالحاً، وأن انحرافات قيادة المنظمة على فداحتها لم تلغ أهمية بقاء منظمة التحرير والحفاظ عليها؛ ما الذي يبرّر الوجود والتمثّل في هيئاتها التنفيذية؟ كيف يمكن أن تعارض نظام حكمٍ وتعتبره مستبدًا ومفرطًا بالحقوق الوطنية، وفي الوقت نفسه، تكون جزءًا من تركيبته، حتى وإن كنت معارضًا؟ إن كانت منظمة التحرير بمثابة "دولةٍ معنويةٍ" للفلسطينيين، فلجنتها التنفيذية بمثابة السلطة التنفيذية لهذه الدولة، والمجلسان المركزي والوطني يمثلان السلطة التشريعية، وهما في جيب المجموعة الحاكمة، كأي سلطة تشريعية في ظل نظام مستبد.
إن ظلت الجبهة الشعبية مصرّة على تشخيصها القديم لدور منظمة التحرير، فالمنتظر منها اليوم على الأقل أن تتخذ الموقف الذي اتخذته قبل نحو عشرين عاماً، بعد مضي قيادة المنظمة في خيار التسوية التفريطي، حين انسحبت من هيئات المنظمة، من دون أن تسحب اعترافها بشرعية تمثيلها أو تخرج منها. وتحملت ثمناً باهظاً جرّاء ذلك القرار، حيث عمدت القيادة المهيمنة إلى تجميد مستحقات "الجبهة" المالية لدى المنظمة، في وقت توقف فيه الدعم المالي الذي كانت تتلقاه من دول عدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز نظام القطب الواحد، ما أدخلها في أزمة مالية طاحنة. وهو أمر سيتكرّر إن اتخذت الخيار نفسه اليوم، وهو ربما السبب الحقيقي الذي يمنع قيادة الجبهة الشعبية من الذهاب نحو هذه الخطوة، بعيداً عن كل ما يعلن ويردّد من شعارات.