الديكتاتورية والحرية والطرف الثالث

الديكتاتورية والحرية والطرف الثالث

24 يونيو 2015
+ الخط -
منذ انطلاقة الشرارة من جذوة فتيل نار البوعزيزي في تونس التي حاولت الأنظمة الديكتاتورية أن تطفئ قبسها لمنع من أراد الاستضاءة بنورها، أو يصطلى بدفئها، أنها كانت صرخة في وجه الظلم والذل والقهر والاستعباد، وإن كانت أخطأت الوسيلة بالنسبة للبوعزيزي، إلا أنها نبهت كثيرين، وأيقظتهم من عدم جدوى استمرار العيش في ظل هذا الوضع الكابت للحريات، الناهب للثروات، المهين للكرامة الذي يدفع بخطى حثيثة إلى نهاية لا تقل بشاعة عن الصورة التي انتهت بها حياة البوعزيزي. 
أحدثت تلك الصرخة المدوية من البوعزيزي، في أقصى الجنوب التونسي المهمش، صدمة قوة أيقظت كثيرين يعيشون واقع البوعزيزي نفسه في البلاد العربية من غفوتهم، ونبهت الأكثر بخطورة المصير الذي يجرون إليه، رغم أنوفهم، وكانت صدمة أيقظت الوعي العام بخطورة الوضع، وحرّكت الشعور الجمعي بخطورة الحالة وضرورة العلاج والوقوف صفا واحداً لتغيير الواقع المرير والعمل الفعلي، لا الدعوة النظرية إلى وضع نظام عام جديد، يكون فيه العدل أساساً والمساواة مبدأ والكرامة الإنسانية جداراً، وتكون للحرية سماء بلا حدود.
وفى المقابل، أحدثت الصرخة نفسها زلزالاً شديداً في العروش العتيدة الضاربة أساساتها في عمق السنين، والممتد طغيانها على كل مساحات الأوطان.
لقد أثمرت صرخة البوعزيزي ثورات الربيع العربي في تونس، لتقفز إلى مصر، ثم تعود إلى ليبيا، لتحلق في سماء سورية، وتكسو أرض اليمن، مع ترقب وانتظار المكان الذي تحط فيه ركابها عند قلوب نضرة، وأبصار مستبشرة، تقابلها قلوب وجلة وأبصار واجفة.
وبين هذين الطرفين، المستبشر الذي خرج يريد الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية التي قضى البوعزيزي من أجلها نحبه، رغبة في حياة أفضل، ونفوراً من الاستمرار في العيش على ما كان يعيش عليه، وفزعاً من ميتة تشبه ميتته، لكن الطرف الآخر من ذوي القلوب الواجفة والأبصار الزائغة من شدة ما سمعت وهول ما رأت من حشود ومطالب، لم تعهدها من قبل، ولم تتوقع يومأ أن تسمعها أو تراها. هذا الطرف المستبد المستكبر الذي مارس الظلم بشتى أنواعه وأشكاله عبر عقود طويلة، وعشق الظلم وتقمص الاستبداد إلى درجة الانصهار، بل الاتحاد والحلول والذوبان فيه، حتى استحال الفصل بينهما أو التمييز. يدافع هذا الطرف عن امتيازات ومصالح وسلطة عشقها وذاب فيها، وجعلها حقاً من حقوقه، ولا يحق لأحدٍ مهما كان أن يفكر أن يشاركه فيها، ناهيك أن ينازع أو ينافس، فهذا لا يقع في نطاق تفكيره، ولا يمكن أن يتصوره، ولا في أبشع كوابيسه.
الأغرب ليس في الطرف الأول، ولا في الثاني، بل الغرابة كل الغرابة في طرف آخر يقع في المنزلة بين المنزلتين في المعادلة المطروحة، ويمكن أن يكون على صورتين في مجريات الأحداث التي تجري بين الطرفين، وإن كان طرف الحرية والعدالة يغفل عن هذا الطرف، ولا يشعر بوجوده، ولا يضعه في حساباته، إلا في وقت متأخر. في المقابل، الطرف الثاني هو الصانع والراعي والمؤطر لوجوده، نوعاً وعدداً وشكلاً ومضموناً، بل على اعتبار أنه يمثل الطابور الخامس للطرف الأول.
يتصف هذا الطرف بأنه صناعة ديكتاتورية بامتياز، لأنه صنع بإرادتها وبيدها وتحت عينها. إنه ما يعرف بالمطبلين والمزمرين والملمعين والهتافين والشاكرين نعمات الديكتاتور في مقابل ما يصل إليهم من فتات موائده، لأجل تلميعه والدعاية له وتحويل المساوئ إلى محامد، والحمد على ما لم ولن يتم فعله، ولا هم لهم إلا الفتات من الهبات، ولا معنى ولا وجود للصدق أو القيم أو المبادئ في قلوبهم التي ران عليها الكسب الباطل من المال الحرام، من عرق ودم الفقراء طلاب الحياة والعدالة الاجتماعية، بتمكين من الديكتاتورية لشراء الولاء، ومن تحت عباءتهم ينسل الجزء الذي تولد ونشأ من علاقة غير شرعية بين الديكتاتورية والمطبلين.
وهذا مسخ في شكله وفي وجوده وفي مفاهيمه وتصوراته، بكونه ناتجاً عن علاقة فاسدة، أنتجت مسخاً ناشزاً يحب العبودية، ويرضى عن حياة الذل والهوان، يحب العيش في البيئات الفاسدة، ولا يفكر في حرية ولا قيمة للمساوة والعدل، ولا الحياة الكريمة في تصوره معاني الحياة. يهوى العيش في الانحطاط، ويركن إلى من يسومه العذاب ويعشق حياة العبودية، ولا يتصور الحياة الكريمة إلا تحت سياط من سامه الخسف والذل والهوان، ويكره مبدأ الحرية والكرامة الإنسانية التي منَّ الله بها عليه، ولله در من قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
وصدقت الشاعرة التونسية، كوثر يونس، حين قالت: كم فيك من غفَلةٍ للباطل صفقوا/ وللظالم نصروا/ وبإخوانهم شمتوا/ وعلى أشلائهم غنوا ورقصوا.



8F94EA8A-7C46-4747-89E0-21B15455C976
8F94EA8A-7C46-4747-89E0-21B15455C976
فرج كندى (ليبيا)
فرج كندى (ليبيا)