الزيارة الأولى لمقابر حيفا

الزيارة الأولى لمقابر حيفا

18 يناير 2015
بعض القبور لشبّان وبعضها لأطفال (Getty)
+ الخط -
بعد موت والدي، اجتمعت مع إخوتي وأمي، ودرسنا معاً فكرة بناء شاهدٍ لقبر أبي. وفي ذروة الحديث، قررت أن أشارك الجميع قراري بخصوص الإجراءات التي طلبتها من شريك حياتي في حال وفاتي قبله.

أخبرتهم أنّني أريد أن تُحرق جثتي ويُنثر رمادي على موج بحر حيفا، فصرخت أمي معلّقةً على قراري: "ما بيكفي مغلبي هالزلمة وأنت عايشة؟ بدك كمان تغلبيه وأنت ميتة!". صمتنا لدقائق قبل أن أضحك، رغم الألم الذي أحسستُ به من جواب أمي.

توقعت أن تقول لي: "سلامة قلبك من الموت" أو "من غير شر"، فهذه هي ردود الفعل المتوقعة خلال هذا النوع من المحادثات. كلّ ذلك لأن أمي متأكدة أنني إنسانة مشاكسة صعبة المراس، وأنني محظوظة لوجود رجل مثل شريك حياتي يتحمل كلّ جنوني.

لطالما قمت بزيارة المقابر الأثرية خلال رحلاتي حول العالم. مقابر يرقد فيها كُتّاب أو شعراء أحببت يوماً ما كتبوا، لكنني تفاديتُ مقابر مدينتي، إلى أن حانت لحظة المواجهة يوم توفي والدي وأنا في الثالثة والأربعين من عمري.

تقع مقابر حيفا مقابل البحر، وهي تأوي جميع الطوائف، لا يفصلها عن الشاطئ سوى الطريق السريع الذي يصل حيفا بيافا، لكن هذا لم يُحفّزني يوماً على دخولها، رغم موت العديد من الأقارب والأصدقاء. حجج الهروب من الذهاب إلى التأبين كانت دائماً جاهزة.

في البداية كنت صغيرة، ولاحقاً أصبحت شابة تتردّد المقولة التالية على مسمعها "بعدك صبيّة ع زيارة المقابر"، مقولةٌ تعطيني شرعية الغياب. بعدها تزوجت ورُزقت بأمير الذي يعاني من شلل دماغي، أصبح مرضه الحجة الأساسية لغيابي وعدم المشاركة في الطقوس النسائية لزيارة المقابر فجر اليوم الثاني الذي يلي الجنازة، للاطمئنان على الميت وتوديعه.

النساء في بلدي ممنوعات من مرافقة الميت إلى المقبرة، ولا أظن أن السبب متعلّق بالدين، إنّما هي طقوس وعادات اجتماعية. ومرّةً سألت أمي: "لماذا تُحرم النساء من توديع أحبّائهنّ؟" فأخبرتني أنّ النساء لا ينجحن في السيطرة على مشاعرهن خلال مواراة الميت الثرى، لذلك يُفضل ألا يأتينَ لحضور طقوس الدفن.

مات أبي وأنا بعيدةٌ في رحلة مع عائلتي في أوروبا، وبصعوبة بالغة استطعت أن أحصل على مقعد شاغر في الطائرة المغادرة في نفس اليوم من ألمانيا لأصل إلى مراسم جنازته في الكنيسة. هناك قمت بتوديعه وتقبيله وتمسيد رأسه كما كنت أفعل في سنوات مرضه.

صُعقت من برودة أذنيه، برودة أكّدت لي أن أبي قد مات فعلاً. لم أفكر يومها في خرق العادات والتقاليد، واكتفيت بتوديع والدي في الكنيسة. وفجر اليوم التالي، توجّهتُ مع نساء العائلة إلى المقابر ودخلتها للمرة الأولى، وعلى الرغم من انشغالي بالحزن لفتت نظري شواهد القبور: فخامة بعضها، بساطة بعضها الآخر، وبعد أن قمت بزيارة قبر أبي تركت النسوة وقمت بجولة تفقدية للقبور المختلفة.

بعض القبور لشبّان وبعضها لأطفال. تمّت العناية بعددٍ منها وإحاطتها بالزهور، فيما قبور أخرى مهملة تحيط بها الأعشاب الضارّة. لبعض القبور شاهد من المرمر، فيما قبورٌ أخرى دون شاهد من أيّ نوع. لاحظت يومها غرابة مقابر مدينتي وصدقها: هي تعكس حال سكانها الأحياء.

بعد أيام عديدة، اصطحبت أولادي لزيارة قبر جدهم وقبور آخرين من عائلتي. تعاملوا يومها مع الموضوع بكل واقعية وبدون دراما، أمّا أنا، فكنت سعيدة بردّة فعلهم.. لأن الموت هو الفصل الأخير في حياة كل منّا.

دلالات