السلام في كولومبيا بعد جائزة نوبل

السلام في كولومبيا بعد جائزة نوبل

04 ديسمبر 2016

سانتوس وتيموشنكو خلال توقيع اتفاق السلام في بوغوتا (24/11/2016/الأناضول)

+ الخط -
منحت اللجنة النرويجية لجائزة نوبل للسلام جائزتها للعام الحالي 2016 للرئيس الكولومبي، خوان مانويل سانتوس، الذي تمكّن، من خلال إجراءات وخطوات حاسمة، من وقف الحرب الأهلية والصراع المسلّح الذي امتدّ نحو 50 عامًا في بلاده، وأودى بحياة ما يزيد على 220 ألف مواطن وهجّر نحو ستة ملايين. وأوضحت اللجنة أنّ الجائزة هي كذلك تعبير عن احترامها المواطنين الكولومبيين الذين لم يتخلوا عن آمالهم لتحقيق السلام، ووضع حدّ للنزاع المسلّح في البلاد.
وجاء قرار منح الجائزة للرئيس الكولومبي مفاجئة للمراقبين والمطلعين، على خلفية النتائج المترتبة على الاستفتاء الشعبي للوقوف على رأي الشعب الكولومبي وموقفه من اتفاقية السلام ما بين الحكومة الكولومبية ومتمردّي القوات المسلحة الثورية الكولومبية ذات التوجّهات اليسارية المتطرفة، والتي تسيطرعلى مساحاتٍ واسعة من البلاد، وتستخدم في صراعها الممنهج مع السلطة أسلوب العصابات. جاءت نتائج الاستفتاء رافضةً اتفاقية السلام مع المنظمة، لأنّ الاتفاقية تعني كذلك العفو عن مقاتلين تلوّثت أيديهم بمقتل بشر كثيرين، عدا عن الجرائم المختلفة التي قاموا بها من سلب ونهب وسطو وخطف للبشر.
وكان الرئيس سانتوس قد أبرم اتفاقية سلام تاريخية مع ممثلي القوات المسلحة الثورية الكولومبية في 25 يونيو/ حزيران الماضي، بعد أربع سنوات أمضاها في محادثاتٍ مضنيةٍ لتحقيق هذه الغاية، وتمّت المصادقة على الاتفاقية خلال شهر يوليو/ تموز الماضي، لكن وقبل اعتمادها رسمياً، يتوجّب المصادقة عليها في إطار وطني واسع في استفتاء شعبي، لكنّ النتائج جاءت مفاجئة للغاية، حيث عارض الاتفاقية 50.2% من تعداد المشاركين في الاستفتاء، عمليًا يبلغ الفارق ما بين معسكر الرافضين والموافقين على اتفاقية السلام أقل من 63 ألف مواطن فقط. الرئيس الكولومبي، وفي خطاب مفتوح أمام مواطنيه، أعلن عن قبوله نتائج الاستفتاء، لكنّه سيستمر ببذل الجهود للتوصّل إلى السلام المنشود في البلاد. أضاف إنّ الاتفاق على وضع السلاح سيبقى ساري المفعول، وطالب من اللجنة المعنية بالتفاوض مع المسلّحين السفر إلى كوبا، لدراسة الخطوات المقبلة مع ممثلي القوات المسلحة الثورية الكولومبية.

رفض إعفاء المسلّحين من تبعات جرائمهم
على الرغم من توقّع غالبية المراقبين نجاح الاستفتاء الشعبي وتمرير اتفاقية السلام بين
الطرفين، إلا أنّ الاستفتاء الساعي إلى وقف القتال الممتدّ ما يزيد على 52 سنة فشل، ما يعود إلى التنازلات الكبيرة التي تقدّمت بها الحكومة تجاه المتمرّدين، وفقًا لبعض البنود في نصّ الاتفاقية، وإصرار المعارضين على معاقبة المجرمين الذين تسبّبوا بمقتل مواطنين مدنيين كثيرين في البلاد، بدلاً من تخفيف العقوبات لقادتهم وإصدار أحكام بالعفو لمعظم أعضاء القوات المسلحة المتمرّدة.
تفيد بنود الاتفاقية المبرمة بين الرئيس خوان مانويل سانتوس وزعيم القوات المسلحة، تيموليان هيمنيس، إلى تسليم المتمرّدين أسلحتهم للسلطات المعنية في الأمم المتحدة، ومغادرة المعسكرات الثمانية والعشرين الموجودة في مناطق مختلفة خلال الأشهر الستّ التالية. على أن يحصل الأعضاء المنتظمون في القوات المسلحة على العفو الشامل، وتقديم المشتبهين بالقيام بجرائم حرب إلى محاكم تحقيق مختصّة، وإصدار أحكام مخفّفة بحقّهم، كخدمة المجتمع من خلال نزع الألغام التي زرعتها القوات المسلحة، وتقديم الفرصة للمقاتلين المنحلين لتأسيس حزب سياسي مستقل، والحصول على عشرة مقاعد في البرلمان الوطني. وكان متوقعاً كذلك أن يبدأ نحو 7500 مقاتل حياة مدنية جديدة. قبل عقد الاستفتاء بأيام معدودة، اعتذر قادة القوات المسلحة علناً من عائلات الضحايا ومن المصابين نتيجة للقتال المسلّح. لكن، وعلى الرغم من ذلك، جاءت نتائج الاستفتاء مخيّبةً للآمال، متسبّبة بحالة من عدم الاستقرار. وأكّد الرئيس سانتوس وقادة القوات المسلحة أنّهم سيواصلون العمل من أجل التوصّل إلى سلام حقيقي وشامل في البلاد، وأنّ الطرفين سيلتزمان بقرار وقف إطلاق النار.

تجدّد المحادثات بمشاركة المعارضة
صرّحت الحكومة الكولومبية، على الفور، إنها تجدّد محادثات السلام مع زعماء القوات المسلحة فور صدور نتائج الاستفتاء الذي حال دون اعتماد اتفاقية السلام، وأرسلت الحكومة وفدًا مفاوضًا إلى كوبا لدراسة الخطوات التالية، مع التزام المتمرّدين باستخدام الكلمة فقط دون غيرها سلاحاً في المستقبل، وأنّ السلام هو الهدف الذي لا بديل عنه.
من أجل استيعاب الأزمة، وعد الرئيس سانتوس بإتاحة الفرصة لمشاركة قادة المعارضة في الكونغرس الوطني في هذه المحادثات، ومن ضمنهم الرئيس السابق، ألفارو أوريبي بيليث، لكنّ هذه الخطوة، في نهاية المطاف، تشتمل على مخاطر عديدة، لأنّ بيليث سيطالب بفرض عقوباتٍ قاسية ضدّ المقاتلين، خصوصاً المتورطين في عمليات تهريب المخدّرات. وأكد الرئيس السابق أنّه لا يدعم استمرار هذه الحرب المبيدة، لكنّه يرغب بفرض عقوباتٍ قاسية ضدّ المتورّطين في جرائم الحرب، وتعديل بنود في الاتفاقية. وأضاف إنّ الشعب الكولومبي سيشقّ الطريق نحو السلام، على أن يتمّ الالتزام بنصوص الدستور الوطني، وإحقاق العدالة، من دون إهانة المؤسسات الحكومية، وعدم تخطّي القواعد والمعايير المعتمدة للحفاظ على نهج التعدّدية السياسية، موضّحًا أنّ الاتفاقية، في صيغتها الحالية، تبدو وكأنّ المتمرّدين قد حصلوا على جوائز لما قاموا به من جرائم بحقّ المواطنين الأبرياء. وحسب إريكا غيفارا روساس، مديرة مكتب أميركا لمنظمة العفو الدولية، ونقلاً عن "CNBC"، أفادت بأنّ كولومبيا تبدو كأنّها قد أدارت ظهرها لما يمكن أن تسمّى "نهاية الحرب"، حتّى وإن بدت اتفاقية السلام غير مثالية في صيغتها الحالية، لكنّها طريق مؤكّدة نحو تحقيق العدالة والسلام المنشود.
كان من الممكن أن يصبح الاستفتاء في كولومبيا الحدث الأهم للعام الحالي 2016، بعد فشل استفتاء بريطانيا الشعبي للبقاء في إطار المنظومة الأوروبية، وتوقّع عقد استفتاء شعبي في إيطاليا لإجراء عمليات إصلاح جذرية على الدستور خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، الأمر الذي سيغيّر طبيعة ونهج المستقبل السياسي في إيطاليا.
حازت اتفاقية السلام الكولومبية على دعم دولي كبير، وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن دعم الأمم المتحدة لها، وتوقّع المراقبون نجاح الاستفتاء لصالح الاتفاقية، لكن هناك أسباباً كثيرة ساهمت في فشله، بعضها - بيئية، حيث حال إعصار ماتيو دون مشاركة الكثير من فئات الشعب، وبلغت نسبة المشاركين 37% فقط. وركب الرئيس السابق ألفارو أوريبي موجة المعارضة، وهو يتمتّع بشعبية تفوق شعبية الرئيس الحالي، وساهم بترجيح كفّة الرافضين لاتفاقية السلام، لكن، وعلى الأرجح، فإنّ السبب الحقيقي الذي أدّى إلى فشل الاستفتاء هو التوجّهات الحكومية الليبرالية، ومحاولة إعفاء سواد المقاتلين المتمرّدين من تبعات جرائمهم بحقّ الشعب الكولومبي.

المعارضة ترفض تنازلات سانتوس
رفضت المعارضة البنود التي تمنح أولوياتٍ وحقوقاً كثيرة للمقاتلين الذين تلطّخت أياديهم بدماء الأبرياء، ومن ضمنها، تمكّنهم من تولّي مناصب مختلفة في المؤسسات الحكومية، وإصدار
أحكام تدعو إلى إعفاء قادة القوات المسلّحة الكولومبية المتمرّدة من تبعات الجرائم التي قاموا بها ضدّ أبناء الشعب الكولومبي. وطالبت المعارضة كذلك باستثمار الأموال القذرة التي حصل عليها المقاتلون من خلال تهريب المخدّرات وتجارة السلاح والسطو وخطف البشر، في صناديق خاصّة لتعويض عائلات الضحايا التي سقطت في المواجهات الدموية التي شهدتها البلاد بين الطرفين. تجدر الإشارة إلى أنّ المعارضين لاتفاقية السلام في كولومبيا قد خرجوا إلى الشوارع، للاحتفال بفشلها بعد ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي.
حسب هذه الاتفاقية، كان من المقرّر تأسيس محاكم خاصّة، للنظر في قضايا المتّهمين بالقيام بجرائم مختلفة، على أن يحصل المعترفون على أحكام مخفّفة وقضاء أحكامهم في سجون خاصّة منعزلة عن بقية السجون في البلاد. الأمر الذي أثار سخط فئاتٍ عديدة في المجتمع، وتمكّنت المعارضة من استثمار موجة الغضب جيّداً. كما أثارت الوعود التي قدّمتها حكومة سانتوس بمنح المقاتلين مقدّرات مالية شهرية شرط الموافقة على نزع سلاحهم حفيظة المواطنين وسخطهم، وسعت الحكومة، في هذه الفقرة، إلى تمكين المعنيين من تأسيس بنية عمل أو مشروع استثماري صغير لسدّ حاجتهم في البلاد، وكذا منحهم 10 مقاعد في البرلمان في الانتخابات المقرّرة عامي 2018 و 2022. أدت هذه التنازلات مجتمعة إلى تكوين جبهة معارضة عريضة بين فئات الشعب الكولومبي، عدا عن أنّ كثيرين شكّكوا في نيات القوات المسلّحة بوضع السلاح والجنوح إلى لتفاوض للتوصّل إلى سلام حقيقي في البلاد.
وفقًا لهذه المعطيات، ليس واضحاً إذا ما كان المتمرّدون اليساريون سيوافقون على تعديل البنود التي تصبّ في مصالحهم خلال اللقاءات الجديدة مع الوفد الحكومي المفاوض، أخذًا بالاعتبار الفترة الزمنية التي امتدّت حتّى أربع سنوات للتوصّل إلى صيغة لاتفاق سلامٍ، رُفضت على المستوى الشعبي، على الرغم من الجهود الدولية التي بذلت لتحقيق هذه الغاية.
بعد ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي في كولومبيا، شهدت أربع عشرة مدينة مسيرات كبيرة ضمّت عشرات الآلاف من المواطنين، مطالبة الحكومة والقوات العسكرية المتمرّدة بعدم العودة إلى القتال المسلّح فيما بينها، وشارك في المسيرات ما يزيد على 30 مؤسسة جامعية، أشرف على تنظيمها الطلاب والأساتذة، حاملين الشموع ورافعين الأعلام البيضاء وصور الضحايا التي سقطت في المواجهات المسلّحة بين الطرفين على مدى العقود الماضية. وقال الرئيس السابق أوريبي إنّ المسيرات ليست بالحجم المطلوب، وكان على الشعب الكولومبي برمّته الخروج إلى الشوارع للمشاركة فيها. والتقى زعيم المعارضة أوريبي بالرئيس الحالي سانتوس، مؤكّدًا له عدم رفضه معاهدة السلام ووقف القتال، لكن هناك ضرورة لمراجعة كثيرٍ من بنود الاتفاقية. وتمكّن الرئيس السابق أوريبي من خوض معركة إعلامية عاطفية للغاية أدّت، في نهاية المطاف، إلى فشل الاتفاقية بفارق ضئيل للغاية.
ويُذكر أنّ اللقاء الذي تمّ بين الرئيسين هو الأوّل من نوعه، منذ تسلّم سانتوس مقاليد الحكم قبل ست سنوات. وقد تحوّل حلفاء الماضي إلى أعداء سياسيين لدودين، بعد أن قرّر سانتوس التفاوض مع المتمرّدين، ووضع حدّ للقتال الدموي الذي أرهق مقدّرات البلاد. ووعد سانتوس بعدم التوقّف عن بذل الجهود في المرحلة المقبلة، لكي يحقّق السلام المنشود، على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها المعسكر الرافض هذه الاتفاقية.
وصرحت وزارة الدفاع الكولومبية أن قرار وقف إطلاق النار بين الجانبين قد مدّد حتى بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وقابل للتمديد، الأمر الذي أكّدته القوات المسلّحة الثورية.

مفترق طرق
تبدو الأمور أكثر صعوبةً بعد ظهور نتائج الاستفتاء، وهناك فرضياتٌ عديدة بشأن مستقبل
الاتفاقية الثنائية، تتمثّل إحداها بعقد محادثات ثلاثية، تشمل الحكومة الرسمية والقوات المسلّحة والمعارضة، الأمر الذي سيعقّد الأمور إلى درجةٍ كبيرة، قد تقوّض المشروع برمّته، وتُفشل المساعي الجادّة لتحقيق السلام في البلاد.
وذكر المحلّل السياسي البريطاني، بريان كلاس، في مقالٍ نشره في موقع FP بعنوان "غصن الزيتون العصيّ"، أنّ الشعب الكولومبي قدّم الأولوية للعقاب والعدالة أمام البراغماتية والسلام، وهذا مفهوم بل وحتّى أخلاقيّ، لكنّ التصويت بـ "لا" يعتبر خطأ فاحشًا، وعلى الشعب الكولومبي إذا أتيحت له الفرصة للتصويت مجدّدًا في استفتاء آخر أن يضغط على أنفه، كيلا تزكمه رائحة الموت والدمار ويصوّت بـ "نعم".
الخيارات مفتوحة أمام الحكومة الكولومبية التي عليها أن تبذل جهودًا كبيرة، بعد أن ضعف موقفها إثر ظهور نتائج الاستفتاء، وربّما عليها الانتظار سنوات عديدة أخرى، كي تتمكّن من التوصل إلى صيغة أخرى لاتفاقية سلام مقبولة من كل الأطراف.
وقد سارت الأمور كما أراد لها الرئيس سانتوس أن تكون بإرادة قوية، وأجرى تعديلاتٍ عديدة، لكي يرضي الأطراف المعارضة في كولومبيا، لطيّ صفحة القتال الذي عاشته البلاد حقبة طويلة. ووقع الرئيس سانتوس اتفاقية السلام مع زعيم القوات المسلحة، تيموشنكو، قبل نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بانتظار مصادقة الكونغرس الكولومبي على هذه الاتفاقية، على الرغم من انتقادات المعارضة المنتشرة في أقاليم واسعة من البلاد. وستشرف الأمم المتحدة على عملية نزع أسلحة قوات الفارك، والتي من المتوقّع أن تستمر نحو ستّة أشهر. وعلى الرغم من الانتقادات المذكورة، إلا أنّ الاتفاقية تبقى أفضل ما يمكن التوصّل إليه في كولومبيا، لوضع حدّ للقتال الدموي الذي امتدّ طوال العقود الخمسة الماضية.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح