السلطة الفلسطينية و"ساعة سويسرية"

السلطة الفلسطينية و"ساعة سويسرية"

08 أكتوبر 2014

إضراب عمال نظافة في غزة يطالبون برواتبهم (سبتمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -
على كثرة ما يتلقى الفلسطينيون من اقتراحات ومقاربات، تتعلق بالوضع الإداري والمالي لسلطتهم؛ فإن "خارطة الطريق" التي تلقتها قيادة السلطة، باعتبارها مقاربة سويسرية، لحل المعضلات وللإصلاح الهيكلي والمالي؛ تحظى الآن باهتمام كبير، إذ يحملها ويطرحها ويشرحها مقربون من مركز اتخاذ القرار الفلسطيني.

فما الذي تتضمنه "خارطة الطريق" السويسرية؟ الجواب يضاهي وقفة موضوعية، من الخارج، مع هذه الكيانية، لمراجعة بنيتها الإدارية والمالية والشرطية، وللتذكير بأن انتفاخ جهازها الوظيفي لم يكن يناسب الشروط الاقتصادية لوجودها واستمرارها، وبالتالي، لا بد من تشذيب. وللأسف، كان توسيع الإطار الوظيفي في السلطة، تحت عنوان فتح بيوت وتخليق أرزاق؛ يُعلَل باعتباره مسعى حميداً لتحقيق القدر الأكبر المتاح من تشغيل العاطلين، ليصبح ذلك أمراً واقعاً، يتعين على المانحين والمُعينين التعاطي معه بإيجابية، وتلبية أكلافه. ولم يكن يخلو من مقاصد أخرى، لا سيما أن اندلاع "انتفاضة الأقصى" في عام 2000 أعقبته تدابير "إصلاح" فلسطينية، طالت مفردات الوظائف والهياكل وإحداثياتها، في إطار "قانون الخدمة المدنية"، مما نتج عنه تضاعف فاتورة الرواتب ثلاث مرات في عامين، وجرى، في الأثناء، مهرجان ترقيات، فأقلق هذا التحول في حينه، محللين ــ وكاتب هذه السطور منهم ــ وأثار أسئلتهم في غمرة فرح منتسبي الجهاز الحكومي بالرواتب المُجزية.

فهل يُراد تضخيم تكلفة عمل الجهاز الحكومي، لكي يتأسس، لدى جمهرة الموظفين، إحساس عالٍ بالرغبة في الحفاظ على الأرزاق المشروطة، في ظروفٍ يمكن أن يصبح فيها انقطاع الرواتب، أو تأخرها، قرصات أذن للوعي الجمعي الفلسطيني؟ كأن سباقاً يُراد إطلاقه، بين اعتبارات الحياة واعتبارات المقاومة، فإن تقدمت الأولى تأزمت الثانية، والعكس صحيح. فعندما يعلو رقم فاتورة الرواتب من 32 مليون دولار شهرياً إلى نحو 80 مليوناً في غضون سنة، ثم يؤتى بسلام فيّاض، لكي يصل بها إلى 180 مليوناً، وذلك كله في ظروف انفجار مع انسداد أفق التسوية واندلاع المقاومة، مما يستوجب ترشيداً؛ فهل يكون ذلك بريئاً وغير ذي مقاصد؟

اليوم، وبعد أربعة عشر عاماً من اندلاع الانتفاضة التي أعقبتها تهدئات، وتخللتها حروب إجرامية شُنت على الفلسطينيين؛ وصلت السلطة إلى حال اقتصادية، تتطلب جراحة مع الإغاثة، وتدخلاً أعمق في التفاصيل، مع حساسيةٍ وطنيةٍ حيال خطط الخارج وتدخلاته. وبدل ما كان يتطلبه الحال من استجماع الوعي مع استجماع الإرادة، والتلاقي بين الأطياف، على المشتركات، والوفاق على قاعدة الأميال العشرة في مسيرة تحرر، يراها طرف، وفق صيغته وخياراته، خمسين ميلاً، بينما يراها طرف آخر ألف ميل، وفق أمنياته القصوى وبرنامجه المُعلن؛ حدث الانقسام، فنشأ جهاز حكومي آخر. وفي العموم اتسع الإطار الوظيفي.

وبسبب رعونة اتخاذ القرارات، بات هناك في غزة موظفون لا يؤدون أعمالاً ويتقاضون رواتبهم، وموظفون يؤدون أعمالاً، وارتهنت رواتبهم لاقتصاد غزة وموارد حكومتها من جباية الضرائب وجر البضائع عبر الأنفاق. وعندما هُدمت الأنفاق، وعزّت الجباية، وحصل الاختناق المالي، وذهب الطرفان إلى مصالحة، ولم يكن واقع هذه المصالحة جديراً بحل المعضلة الاقتصادية، تشكلت لجان فنية لدراسة أوضاع الموظفين، لكن كلفة التسوية ظلت شبه مستحيلة التوفر، وتبدت العقدة أمام المنشار.

ورقة المانحين التي تمثلها "خارطة الطريق" السويسرية جاءت لتضع النقاط على الحروف: الجهاز الحكومي متورم، ويجب مداواته بتقليصٍ أو تجفيف. ملفات المستخدمين تُدرس على قاعدة معايير فنية وسياسية. لن يُرمى موظفٌ في الشارع، لكن الحلول ستختلف: تدريب على المهارات المهنية للارتحال إلى القطاع الخاص، مكافآت واستغناءات بالإقعاد شبيه التقاعد، وإعانات اجتماعية. حكومة يمتثل لها جهاز شرطة مدني يحسم، وقضاء مستقل. محددات ومبادئ وشروط، تتوخى إعادة الكيانية الفلسطينية إلى العمل كــ"الساعة السويسرية"، لا تقدم ولا تؤخر.