الصبي الأعرج

الصبي الأعرج

13 يناير 2015
+ الخط -

"الصبي الأعرج" عنوان نص قرأناه في الفصل الثالث ابتدائي. كان عمري يناهز الثماني سنوات. تحت أنظار الصبيان، كان كِتابُ "القراءة" مفتوحا على الصفحة، حيث العنوان أعلى النص، وصورة توضيحية لصبي أعرج، يستند على عصا خشبية، تتدلى من خلفها رجله العرجاء. لا أزال أذكر الصورة بتفاصيلها، مثلما أذكر صورة معلمنا المتجهم، الطيب، على الرغم من ملامح وجهه الصارمة.
قراءة صامتة! قال المعلم. ساد صمت القبور حجرة الدرس. العيون كانت مشدودة إلى الكلمات تفك طلاسمها في عسر، والقلوب صارت هواء! كان منا القارئ الماهر، ومنا الذي يتلعثم. لا مشكلة لدي، فقد كنت تلميذا نجيبا. على أن ما كان يدور في خاطري ساعتها، وأنا الصبي ذو الثمانية أعوام، أن موضوع نص القراءة كأنه يتحدث عني، فقد كنت صبياً وكان في مشيتي عرج شديد.
مضى على ذلك الحادث العارض ربع قرن. خمسة وعشرون عاماً ونيف، قضيتها على مقاعد الدرس، في المدرسة كما في الحياة، قارئا نهما لكل ما تقع عيناي عليه. لكن صورة الصبي الأعرج ظلت عالقة في مكان ما من ذاكرتي، تأبي النسيان.
عقدة! يقول عالم النفس. صدمة مبكرة كشفت للصبي الغض الطري أنه ليس صبياً، شأن الصبيان، فحسب، لكنه صبي وأعرج.
والحق أنني لا أحب أن أخوض في نظريات، عفى عليها الزمن، تنتشي بانتصارها الفكري وكشوفها العلمية الباهرة، حين تضع الإنسان، تحت مبضع التشريح، في مختبرات التحليل النفسي.
لا أحب ذلك، وأنزه نفسي عن مجرد الخوض فيه، لكن صورة الرِّجْل المتدلية خلف العصا الخشبية لا تزال تلح علي. قد تكون الصورة رسخت في ذهني، بفعل "موقف" آخر ذي دلالة: أعطاني المعلم، ذات صباح رائق، لا أزال أشم ريحه من مسيرة ربع قرن، عصا خشبية – ربما ألهمه النص القرائي - وقال: هذه العصا قد تعينك على المشي.
وليته لم يفعل، فقد أرهقتني عصاه من أمري عسراً. كانت أطول من قامتي، وكنت أجد عنتا في اتخاذها، وهي الشبيهة بالعصيِّ التي يتكئ عليها العجائز. ولم أطرحها وأعد إلى سيرتي الأولى، حتى مر زمن غير يسير، حياءً من معلمي أن يقول إنني رددت عليه هديته.
واليوم، أستعيد تلك الذكريات البعيدة، لا لألبس معطف الناقد للمناهج البيداغوجية، ولصورة المعاق في الكتاب المدرسي. ولكن، لأرى كيف كان ذلك الصبي وإلى ما صار. ولئن أسعفتني الظروف، وشاء الكريم الوهاب أن أستكمل دراستي، على ما كان في ذلك من عنت ومشقة، وأجد، بعد ذلك، موطئ قدم في دنيا الناس، فإن كثيرين من أمثالي عاشوا مآسي حقيقية، بسبب إعاقاتهم.
وإني لأجزم أن التمثلات الخاطئة لمجتمع الأصحاء عن المعاقين ليست سوى واجهة العوائق التي تحول بين المعاقين والانخراط الفاعل في الحياة. بل إنها تكاد تكون الشجرة التي تخفي غابة العوائق والحواجز والمطبات. دعك من الحماية القانونية للمعاقين والرعاية الاجتماعية والصحية لهم والمقاربة الحقوقية لقضاياهم، فإنما ذلك كله ترف تهفو إليه قلوب المعاقين، من دون أن يبلغوه.
أقدر أن تدبير الحكومة للشأن العام ليس مهمة يسيرة، وأن ثمة أولويات ملحة، وملفات ضخمة، وإصلاحات تنتظر التفعيل، وهموما عريضة ومشكلات بلا حصر على مكتب رئاسة الحكومة، لكنني أعرف، أيضاً، أن قضية الإعاقة في بلدنا تهم ربع الأسر المغربية، وتعني أزيد من 5% من المغاربة. وهي قبل المقاربة الحقوقية، وقبل القوانين الحامية الراعية، قضية إنسانية صرفة، لا تحتمل التأجيل، ولا التماطل ولا التوظيف الانتخابي، ولا النظرة السياسية الضيقة.
ولمعلمي الطيب، لا أنساه، تحياتي ودعواتي.

602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
سمير بنحطة (المغرب)
سمير بنحطة (المغرب)