النخبة والجماهير في الخطاب الديني

النخبة والجماهير في الخطاب الديني

04 نوفمبر 2018
+ الخط -
كان الخطاب الديني، ولا يزال، أحد وسائل الدعوة والحكمة، ونبراس الحفاظ على النسيج المجتمعي والسلم الأهلي في سياق يحمي الإنسان من أهوائه وغرائزه التي قد تسطو على حقوق الآخرين.
لكن يبقى الخطاب أسير النص عند بعضهم، من دون نظرة ثاقبة للواقع، بل ويعتبر عند بعضهم، في أغلب الأحيان، رديف الخطاب السياسي، فيتمحور حول جلد الذات، وتصوير أحوال الناس وخروجهم عن هذا النص، فتعمّم القسوة في الحديث والثنائية في المقارنة، على الرغم مما يحمله من بعض النجاحات هنا وهناك.
ولعل هذا دفع كثيرين إلى ممارسة "التمسرح" في الخطاب من خلال التركيز على مشاعر المتلقي دافعاً إياه إلى قناعات معينة. وبمعنى آخر، أنتجت فوضى الخطاب سلوكيات متناقضة بين أسلوب الخطاب وثقافة الاستهلاك الجماهيري، وأبرزت النخبوية بمفهومها الفظ، فيميل الخطاب عند البعض إلى المقارنة بشكل مستمر بين أمجاد الماضي وعثرات الحاضر، بين أحوال الغرب المتقدم وأحوالنا التي يرثى لها، بين الأفراد المستقيمين والمنحرفين، بين رجل الأمس ورجال الحاضر من حيث السلوك والهمة دون الإشارة إلى أسباب التردي التي أنتجت هذا التناقض، خصوصا إذا كان من يقومون بالخطاب من بطانة السلطة الحاكمة، أو أتباع النظام القائم.
وعلى هذه الصورة التي قد يراها بعضهم أصلاً في الاستدلال بالماضي للارتقاء بالحاضر، أرى أنّ هذه الثنائية قد عزّزت ثنائية النخبة والجماهير، حيث يفترض هذا النوع من الخطاب أنّ ثمّة صفوة عارفة لدينها ودنياها، وأنّ ثمّة جماهير جاهلة تحتاج من يعلمها ويقودها، فتظهر النقد على أنه من صور التعالي للنخبة التي تخرج نفسها من دائرة النقد.
إضافة إلى ذلك، نجد أنّ الخطاب الذي ظاهره النصح والإرشاد، يحاول تعظيم الأمور، فيحسن ما يريد، ويقبح ما يريد بصفة العارف الذي يطلب من الجمهور أن يتخيّلوا دون تسلسل منطقي للأحداث.
ولأنه ليس من النقص أن يتمركز الخطاب، حول ذاته، وأن يضع الخطيب نفسه مكان الناصح الأمين، ولأن من أهم مقتضيات التجديد الديني مراعاة البلاغة وأدب الخطاب، باختيار أنسب العبارات الدالة على أبلغ المعاني، وأكثرها تأثيراً في النفوس، وكذلك مراعاة فقه الأولويات، بأن يبدأ الداعية بتقديم المواضيع الأهم، وما تمس الحاجة إليه، مواكبًا حاجات المجتمع وتحدياته، ليكون الخطاب وثيق الصلة بالناس، يحسّن أحوالهم، ويبث فيهم القيم الإيجابية، وكذلك مراعاة فقه المصالح، فمقصود الدين جلب المصالح للناس، ودرء المفاسد عنهم، وتحقيق سعادتهم الدنيوية والأخروية، يبقى العيب في أن يؤطر هذا الخطاب للفكر النخبوي، ويعمق فكرة الفصل بين المهتدين والضالين.
ولعل ما يلفت النظر في طبيعة الخطاب الديني الجديد اعتماد الدعاة الجدد على المهارات في الأداء من حيث: نبرات الصوت، إيماءات الوجه، والخروج عن المألوف في الحركات.. وهذه من متطلبات الخطابة، لكنها جعلت من البعض أقرب إلى النجومية المعتمدة على مرجعية غير نصية أو ضعف في القدرة على ربط النص بالواقع المعاصر وإيجاد حلول لمشكلات المجتمع في ضوء مدلولاتها.
صحيح جداً أن لكل خطاب مكانه وزمانه وآلياته الكامنة والظاهرة، وأساليب مختلفة في الإنتاج والتقديم للجمهور تختلف باختلاف الفرضيات والمعطيات، وأن طبيعة المرحلة والأحداث تغير من اتجاهه، إلا أنني أرى أنه من الصعب القبول بمثل ما يسود اليوم من خطاب ديني يسطح الأمور، ويدعو إلى النخبوية، ويرى في الماضي طريق الخلاص، من دون الأخذ بأسباب الحاضر، فالتجديد الديني ليس مجرد ترفٍ فكري عارض، بل له مقاصد عليا يهدف لها، أهمها: حماية الضروريات الكبرى، وحفظ الأمن والاستقرار في الأوطان، لتُحفظ الدماء، وتُصان الأنفس، وكل ما يخل بالضروريات والمصالح العليا فليس من التجديد في شيء، وعلى رأس ذلك شرعنة القتل والتكفير، والتحريض، ونشر الخطاب الطائفي، والفوضى الفكرية.
وعليه، أدعو جميع الدعاة الجدد، وخطباء المساجد، إلى تحرّي الحلول في إطار فهم النصوص، وليس قولبتها، والكف عن التخويف والسرد القصصي للأحداث، والبعد عن التمسرح باستخدام الوسائل السمعية والبصرية، والذهاب بنا إلى الإرشاد أكثر من الدهشة المصحوبة بالشماتة.
50910796-8FDC-4657-8A3B-573B24A2C9A4
50910796-8FDC-4657-8A3B-573B24A2C9A4
محمود عبد المجيد عساف (فلسطين)
محمود عبد المجيد عساف (فلسطين)