بحثاً عن أثر الأزموري

بحثاً عن أثر الأزموري

04 أكتوبر 2015
شاطئ حيث حط الرحالة المغربي الأزمور(Getty)
+ الخط -
وأنا أمرّ بين حارات سان أغوسطين، في ذلك اليوم المشمس الحار، وأقف أمام محلات بيع المجوهرات والتحف، كنت أكتفي بالتقاط الصور للأعمدة الأخشبية والأسوار المتآكلة بحثا عن تاريخ ما.. تاريخ أدركت أنه لم يكن لي ولم أكن منه.. لكنني مؤمن أنه تاريخ المنفى. تاريخ أنني أحيا أقصى حالات الإتلاف لسيرة اجتهدت طويلا كي تكون تاريخا لي وحدي، لكنها كانت صورة للذاكرة والحاضر..
وصلنا ميامي قبل غروب الشمس، بعد رحلة طويلة قادمين من أورلاندو. الطقس حار ورطب والأمطار غزيرة. استلمت مفاتيح غرفتي بعد أن تبادلت بضع عبارات مع موظفة الاستقبالات. نمت قليلا. شغّلت التلفاز واستمعت إلى التوقعات الجوية. لا أمل في توقف الأمطار هذا اليوم. رغبتي كانت أن أخطو فوق رمال شاطئ طالما قرأت عنه وشاهدت أفلاما حول مهاجمة سمك القرش للمستحمين. يبدو أن لعنة طنجة تطاردني. للمدن سخطها على أبنائها. مع ذلك قررت أن أذهب إلى الشاطئ. كانت العواصف الرعدية تزداد والأمطار تهطل كالشلالات، وأنا أعاند القدر. من داخل السيارة تأملت الشاطئ الرملي الذي بدت لي فوقه بعض الطيور. نخيل يتمايل شمالا. تذكّرني الأمطار دائما بطفولتي الشقية. كم يشبه الشارع المحاذي للنهر المقابل للفنادق في ميامي بيتش كورنيش طنجة قبل إفساده.
مرت ساعة وأنا في الماء أفكر وأكتب وأنقح، وأجتهد في الفهم. استعدت مشهد زيارتنا لمتحف غرائب الدنيا. كنت أشاهد في خيالي مومياء فرعونية وأنا أقول في نفسي "في كل متحف دخلته شاهدت قطعة من آثار الفراعنة، من صخرة جبل طارق إلى بوسطن ونيويورك وواشنطن دي سي وباريس وأمستردام ولندن، لكنني لم أصادف شيئا في شبه متاحفنا في وطني القديم".

الآن أعرف ما معنى تهريب التحف والقطع التاريخية. لكن هل هي مسؤولية الناهبين فقط، أم مسؤولية أولئك الذين باعوا الذاكرة مقابل دولارات!

كان الطرق عاليا فاعتقدت أنه في خيالي فقط. اعتقدت أنه الصوت الذي كنت أسمعه حين وقفت أمام ذلك الوجه الصغير الذي كان الهنود الحمر يصنعونه من رأس الإنسان بطرق غريبة ومثيرة للدهشة.

صرخت بصوت فيه مزيج من الألم والحيرة والخوف والفرح، ولكنني استأنفت قائلا: "ما أجمل أن تكتب يومياتك وأنت غارق في النهر.. لقد حاولت أن أستحم في الماء مرات وأن أكتب مرة واحدة".

كانت زخات الأمطار الطوفانية تصطدم بزجاج النافذة وأنا مستلقٍ على الأريكة أتخيّل حسناء بودلير مستلقية في اطمئنان.

أخيرا، وبعد ليلة ماطرة، حالفني الحظ وخطوت لساعة على رمال شاطئ ميامي.

لرائحة البحر أثر غريب على أحوال مزاجي...

من هنا مر مصطفى الأزموري. المغربي الذي بيع عبداً للبرتغاليين وصار إلهاً في قبائل هنود هذا الجنوب.

لا جبال في فلوريدا. فقط مستنقعات وبحر وأمطار وأدغال وبرتقال ونخيل. الكوبيون والإسبان واللغة الإسبانية والمطر والأحلام..

فهمت لماذا يردد البوسطنيون في موسم الشتاء والثلوج عبارة "سأرحل إلى فلوريدا".

لكن هل يمكنني أن أستقر في فلوريدا!؟ قلت قطعا لا! لأن مزاجي يغلب عليه الصمت والعزلة، وأكره الأمطار في موسم الصيف. فالصيف زمن خال من المطر، هكذا علّمني المتوسط منذ طفولتي؛ قلت لها حين سألتني. لكنني سأعود مرات وسألتقط صورة من النقطة صفر في أقصى الجنوب حيث تبدأ الطريق رقم واحد لتنتهي في ماين...

سأعود فقط كي أبحث عن النصب التذكاري للمستكشف المغربي الذي اكتشف فلوريدا.. سأعود كي أكتب في الدفتر الذهبي لكل متحف أزوره "ألا تعرفون مصطفى الأزموري الذي خلّده التاريخ الهامشي باسم اصطبانيكو.. ألا تعرفون الفتية المغررين الذين اكتشفوا هذه الأرض قبل كولومبوس...!".

سأعود كي أجالس تلك العجوز، ذات الأصول الإيطالية، كي أذكّرها بأن كولومبوس كان أكبر كذبة صدّقها التاريخ المزوّر.

دلالات