بعد سحق الربيع: نحمل السيوف لا محاريث

بعد سحق الربيع: نحمل السيوف لا محاريث

05 يناير 2017
+ الخط -
(1)
الربيع على الأبواب، نعم نعيش فترة "أربعينية الشتاء" قارسة البرد، لكن الوعد قائم، بعودة الربيع، القادم لا محالة، فبعد فصل الشتاء الطويل، يأتي الربيع، وتتفتح الزهور، يمكن لك أن تسحقها قبل أن تكتمل زينتها، ويمكن لك أن تتربّص بكل برعمٍ يشقّ طريقه نحو النور، ويمكن أن تقطع الشجرة من أول الساق المُعانق للأرض، لكنك بحال لا يمكنك أن "تلغي" فصل الربيع بأكمله.
(2)
لم يختلف الناس على شيء في السنوات الأخيرة مثل اختلافهم على "الربيع" ومن صنعه، وحرّكه، و"فجّره"، ويكاد القوم كلما ذُكر يلعنونه سراً أو علانية، باعتباره جلب لنا الفوضى والدماء، بدلاً من الترتيب والنماء. ولهذا، يحمّلونه كل الذنوب التي ارتكبها أعداؤه، فهو كالبنت المغتصبة في بلادنا، نصبّ غضبنا عليها، ونسعى إلى غسل عارنا الذي سببه مغتصبها بقتلها هي، وتحميلها وزر كونها ضحية.
(3)
في مرويات الطفولة، كنت أعاقَب في البيت إذا ما نشب خلاف بيني وبين أحد أولاد الحارة، ليس لأن الحق معي أو عليّ، فهذا ليس مهماً، بل لأنني كنت طرفاً في الخلاف فقط، إذ علي ألا أكون من حيث المبدأ في هذا الموقف، والسبب أننا أسرة مستورة لا نحب المشاكل. إنها صورة أخرى من صور معاقبة الضحية، قبل التحقيق، وهي صورةٌ مصغرةٌ لكون المواطن العربي متهماً بشكل دائم، ثبتت إدانته أم لم تثبت، فهذا ليس مهماً، يكفي أن يكون "مواطناً" لكي يكون متهماً.
(4)
لا أحب الكتابة في الذكريات، وإحياء المناسبات، لكن شأن الربيع مختلفٌ، فهو دائم القدوم، 
ودائم المقاومة، ليس من قوى "الثورة المضادة!" فحسب، بل من منتظريه ومحبيه، وضحاياه أيضاً، فلم يسئ للربيع أحدٌ كما أساء له أصحابه، ناهيك عن كارهيه ومقاوميه، فهو ضحية لكل الأطراف، ويلعنه أصحاب المصلحة الأولى بالتمتع بخيراته، إما جهلا به، أو عقاباً له على كونه ضحية، مثلهم هم تماماً.
هذه الأيام تحل ذكرى الربيع إياه، الأسباب التي فجّرت الثورات لم تتبدّد ولم تختف، وأنا أقتبس من مقال في "الغارديان" هنا، بل لعل الظروف اليوم من عدة جوانب أشد وأنكى، والأوضاع أكثر قابليةً للانفجار مقارنة بعام 2011. .. الرجال والنساء الذين تملكهم اليأس، ويمّموا تجاه أوروبا، إنما خرجوا طلباً لحياة أفضل من التي تتوفّر لهم في أوطانهم.
وبحسب تقرير التنمية العربي الصادر عن الأمم المتحدة، يسكن الشرق الأوسط خمسة بالمئة فقط من سكان العالم، لكنه يولّد 45% من الإرهاب في العالم. وتبلغ نسبة الوفيات فيه بسبب الحروب 68%، ونسبة المهاجرين 58%، وهذا يأتي في وقتٍ، كما تحذر الأمم المتحدة، يتجاوز فيه تعداد الشباب من العرب 100 مليون نسمة، ويستمر عددهم في التزايد بشكل سريع. ولكن ليس، بالسرعة ذاتها لمعدلات البطالة والفقر والتهميش. إن ظهور أكبر جيل من الشباب يعدّ الأفضل تعليماً والأعلى تمدناً في تاريخ المنطقة (يفوق في تديّنه ما عليه أقرانه في مناطق العالم الأخرى بمراحل). يعطي انطباعاً بأنه قوةٌ تدفع باتجاه الزعزعة والاضطراب. كان رد الفعل في داخل المنطقة هو اللجوء إلى القمع؛ سحق المعارضة، ولكن من دون معالجة الأسباب التي أوجدتها. ولذلك، ليس عجباً أن تحذر الأمم المتحدة من "تراكم المطالب، وعودتها إلى الظهور بأشكال أكثر عنفاً".
الأسباب التي ستولد دورة جديدة من الاحتجاجات واضحة، ومن ذلك أن العالم العربي تزدهر
فيه السيوف، لا المحاريث، وهو الذي أنفق، خلال ربع القرن الأخير، ما يقرب من 75 مليار دولار سنوياً على التسلح. تسيطر النخب العائلية على السلطة، والأعمال التجارية لا تكاد تتم من دون الواسطة والمحسوبية. أدى الفساد إلى إهدار كمٍّ هائل من الموارد؛ تقول الأمم المتحدة إن ما يقرب من 11 تريليون دولار، نهبت خلال نصف قرن. كان يمكن لهذه المبالغ أن تستثمر في إيجاد فرص العمل وتحسين الخدمات الأساسية.
(5)
هل ثمّة من يعجب، بعد كل ما حصل منذُ عام 2011، لم كل هذا التطرّف والإرهاب والقتل الأعمى؟ هل "المذُنب" هو الربيع، أم من قتله وسحقه بمنتهى الإجرام، خوفاً من شيوع الحق والجمال في بلادنا التي خيم عليها الخراب وأشباح الموت في كل مكان؟ أو نعجب حينما نغلق أبواب الحياة والحب في وجوه الشباب في هذه الحياة الدنيا، ونسأل: لم يتوجهون إلى الجماعات المسلحة، ويتخذون "الإرهاب" سلّماً للخلاص في "الآخرة"؟
(6)
لم تزل النبوءة قائمة، والربيع قادم لا محالة، تأخر قليلاً، أو غُيّب جبراً وقهراً، أو اختطف، أو اعتقل. السنوات السبع العجاف ستنتهي قريباً، لتبدأ السنوات السبع السمان.