تقنيات الفقر والبؤس: كيف نتقاسم حبّة بونبون

16 فبراير 2015
طفولة فقيرة (Getty)
+ الخط -
لم تنتهِ "رندة" من سرد خبرياتها بعد، متنقّلة من واقعة إلى أخرى، حاملة في كلّ قصّة ضحكة وغصّة، وتضع كلّ طفولتها في قوالب من سخرية، كما لو أنّها تسخر من فقرها الغابر وتحوّله إلى ضحكات.

هي رندة التي تجبل المزاح بالوجع والحبّ والحنين. وكذا دائماً تستطيع أن تحملنا إلى حيث تنبش من الذاكرة. فالمشهد يحضر بقوّة، لتؤكّد لنا أنّه لم يبقَ من قهرنا العتيق سوى سخريتنا منه.

كانت نافذة غرفة الجلوس في بيتنا تطلّ على غرفة جلوس الجيران وتبعد مسافة أمتار قليلة، تروي رندة، وبقينا لفترة نستفيد من هذه النافذة حيث كنّا نشاهد صورة التلفزيون عندهم، لأنّ شاشة جهاز التلفزيون عندنا معطّلة ونستخدمه فقط لنستمع من خلاله. فكان الحلّ أن نتابع الصورة من جهازهم والصوت من جهازنا. لكنّ المشكلة أنّنا كنا مضطرّين أن نتابع البرامج بحسب رغبتهم والقبول بمزاجية تشغيله أو إطفائه ساعة يريدون. وكلّما أراد أحدهم أن يبدّل المحطة، كان علينا أن نبحث في جهازنا عن الصوت المطابق لها.

مع ذلك كان الوضع مقبولاً لأنّ عدد المحطات وقتها كان محدوداً جداً والبرامج تكاد تكون محصورة، لا سيما المسلسلات اللبنانية التي كانت تُشاهد في كلّ البيوت اللبنانية تقريباً... لكنّ هذه النعمة لم تدُم علينا طويلاً. إذ قرّر جارنا، فجأة، أن يركّب ستائر لغرفة الجلوس، ما حجب عنّا صورة تلفزيونهم وبقينا بعدها نحو سنتين نتابع كلّ البرامج والمسلسلات والأخبار على تلفزيوننا بصوت ومن دون صورة".

لم ينتظر طويلاً صديقنا علي لكي نشبع قصّة رندة من تعليقاتنا وضحكاتنا، فبدأ بسرد قصّته عن "حبّة البونبون". وقصّته هذه تعود إلى أواخر خمسينيّات القرن الماضي، حين كان عائداً من مدرسته في عربصاليم، إحدى قرى إقليم التفاح جنوب لبنان، مع اثنين من رفاقه، سيراً على أقدامهم، إلى قريتهم جرجوع التي تبعد خمسة كيلومترات تقريباً. 

ابتاع علي ورفاقه، وهم في سنّ العاشرة تقريباً في حينها، حبّة "بونبون" من دكّان في عربصاليم، على طريق عودتهم إلى جرجوع. وثمن الحبّة كان بيضة دجاجة تأمّنت قبل يوم في عملية سطو على قنّ دجاج أحد أقاربهم في البلدة.

كانت الصعوبة في طريقة تقسيم حبة البونبون بالتساوي. فحبة "الدروبس"، كما كان اسم الماركة، قاسية جداً لمن لا يعرفها، لا تقطعها سكّين، ويستحيل تكسيرها إلى قطع متساوية.

لهذا قرّر الرفاق أن يضع كلّ واحد منهم الحبّة في فمه ويبدأ الآخرون في العدّ حتّى العشرين. وحينها تنتقل الحبّة إلى فم آخر ويبدأ العدّ حتّى العشرين من جديد... وهكذا تعاد الكرّة مرّات ومرّات.


دارت الحبّة على أفواههم، يروي علي، حتّى صارت رقيقة كورقة. وكان أن وصل الدور إلى أحد أصحابه، والحبّة قد أضحت أشبه بشفرة. فوضعها في فمه، وقبل أن يصل العدّ إلى خمسة كانت الحبّة ذابت وتكسّرت، فابتلعها.

ما إن شعر علي ورفيقه بأنّ رفيقهما ابتلع ما تبقّى من الحبّة حتّى انهالا عليه بالضرب، متّهمين إياه بأنّه غدر بهما، وأخلّ بالاتفاق. وظلّا يضربانه من عربصاليم حتّى جرجوع، إلى أن نسي طعم البونبون. ولعلّه حلف على البونبون وقتها، وندم على كلّ هذه الشراكة.

أخرجت هذه الحادثة ضحكاتنا من الصميم، وأيقظت ذاكرة امتلأت بالمواقف الطريفة، فصديقنا علي، وهو أستاذ جامعي حالياً، وميسورٌ تقريباً، يروي أنّ شريكيه في حبّة البونبون هما طبيبان من بلدته حالياً، وهما صديقان حميمان: "تغمرني غبطة وسعادة كلّما استحضرت من طفولتي حكايات التعب والفقر، فنسخر من الماضي ونضحك على مآسينا". 

المساهمون