حوار حيّ مع مهنّد يونس.. اعترافات أو هلاوس 2

حوار حيّ مع مهنّد يونس.. اعترافات أو هلاوس 2

09 سبتمبر 2017
(القاص الراحل مهند يونس/ فيسبوك)
+ الخط -

تمامًا، كما قرأت العنوان، هذا حوار طازج، حدث اليوم (تأكد من التاريخ لو أردت)، ربّما تعتبر الأمر كذبة، أو مجرّد هلوسة، أو محاولة لاختراع سبق صحافي، سمّي الأمر ما شئت، لكن هذا ما حصل حقًا.

أروي هنا حوار مع صديقي، الذي لم ألتقِه يومًا في حياتي، أجل، مهنّد يونس، القاص الذي انتحر قبل أيّام، وهذا الحوار جرى اليوم. هكذا حدث الأمر، كنت نائمًا -أو بالأحرى مُستلقياً- في غرفتي، أحدّق في صورة لمهنّد، مُعلّقة قبالتي، شعرتُ بيدِ أحدهم -وبالمناسبة لم تكن باردة- تهزّني، اعتقدت في بادئ الأمر، أنها أمّي، فأغمضت عيْنيّ، حتّى لا يضيع آخر ما كنت أفكّر به، مع أنني لم أكن أفكر بشيء إطلاقًا.

* لا تحاول ذلك، أعرف أنّك ما زلت يَقِظًا.

يبدو الصوت غريبًا، التَفتُّ، فإذا به هو، وكأنه ملّ من الوضعية، التي اتخذها للصورة- ممسكًا بسيجارة، تاركًا رأسه على يده- فقفز من الإطار؛ ليرتاح قليلًا. لم أقتنع بعد، يبدو أنني فعلًا-كما تقول حبيبتي- دخلت في نوبة كآبة مُدوّية. أغمضتُ عيْنيّ مرةً أخرى، زفرتُ نَفسًا عميقًا، فركتُ جفْنيّ، وحدقت بهِ.

* مالك؟

- …... !؟

* يعني، عندما سمعت أنني مُت، لم تصدق، والآن أقف أمامك كمرآة، وتُكذّب ذلك؟ قلت في رسالتك، أنّك كنت تنتظر الصدفة؛ لنلتقي، وها أنت غير مهتم، أأذهب؟

- لا، اِنتظر، أنا آسف، فقط أمرُّ بحالة سيئة، نوعًا ما، هذا كلّ ما في الأمر.

فيما بعد، دعوته للجلوس، وقد اِختار أن يجلس على السرير المقابل. عرضت عليه سيجارة، لكنه رفضها، ثمّ دار بيننا حوار، وقد وافق على نشره، وأعترف أنّهُ ساعدني كثيرًا في تحريره، كما وافق على عَنْوَنته بهذا الشكل.

ملاحظة: الحوار الداخلي، قاب القوسين، هو على لسان متحدّثه، أي ما فكّر به، قبل التحدّث، لكن هنا مشكلة أخيرة، اقتضى التنويه لها، لقد كتبنا هذا الحوار معًا، لذا التبس علينا الأمر، فلا يمكنك القول، أن هذا ما قاله مجد، وهذا ردّ مهند، وهذا أمر غير مهمّ أصلًا.

أخيرًا، لقد تراهنّا، أن هذا الحوار لن ينشر، بأن أعود للحياة، أو ينتحر، لذا لم نكترث لكل هذه الهلاوس .

*لديك مكتبة جميلة.

- (ابتسمت): …

*مالك صافن هيك؟

- لا أعرف، لكنّي متفاجئ، لكل ما حصل.

* يعني، من البداية كنت أرى النهاية بالشكل نفسه، فعلتها مرتين، لكني فشلت، وكان هذا أسوأ خبر في حياتي، أي الفشل الوحيد الذي أعترف به.

- لكن، لِمَ صار الأمر، في هذا التوقيت بالذات؟

* لم يحدث شيء، سارت الأمور كما يجب.

- سارت، تقصد أنّه لا دخل لك؟

- إلى أين تريد أن تصل؟

* أنّ هناك سيناريو مُعد، وهذا كلّه، ليس أكثر، من أن كل واحدٍ منّا، يؤدّي دوره، بحرفيّةٍ عالية.

(يبدو أنّه يريد التّأكد، كوني مؤمنًا، أم لا): تقصد القدر؟

* ليس تمامًا، سواءً كان الله موجودًا أم لا، فأنا أحسُّ بذلك، لكن إن كان موجودًا، فلِمَ فعل ذلك؟

- صَنع القدر؟

* بل خلقنا. يعني، إن كان يعرفُ مسبقًا، كل ما سنفعله- بما أنه المخترع- وما ستؤول إليه مصائرنا وخياراتنا-إن كان هناك خيارات أصلًا- فلِمَ رمى بنا هنا؟ سترد بقصّة الخلق، ومسرحية إبليس، وغيرها، حتّى ترى ردّة فعلي، لكنّ كل هذا مُعدٌّ مسبقًا، لا يد لنا في أي شيء.

- لهذا، ما دمنا متفقين بهذا الشكل، أن المرء لا يختار، عائلته، وطنه، هويّته، اللغة التي يكتب بها، لذا على الأقل، عليه أن يخون هذا المسمّى قدر، ولا ينتظر أن يوقفه، كما رمى به على خشبة المسرح، أن يختار النهاية التي يريدها، ولا يأبه بكل هذا العالم، الذي يأكل الفشار ويضحك، أن ينتحر، ويفسد السّهرة.

* لكن، حتى هذه النهاية، مقرّرة من قبل.

- مقررة من قبل؟ أنا الذي اختار ذلك، أنا من فكّر بها، هل تفهم؟

* لكن، حتّى أفكارك، ليست ملكك، هي من تقودك، لا أنت، أنت مجرد عَربة، عجلاتها مخلوعة.

- بلّشْنا فلسفة!

* هاها، قال سيناريو، ومصائر، حاسّك أيمن العتوم!

- هاهاها، أنا من الأوّل مش مرتاحلك.

* لنكن واضحين، أنا أعرفك، وأنت كذلك، رغم أنها أوّل جلسة، لنتفق على نقاط البداية.

- تأخد سيجارة طيب؟

* أوك.

- لدي سؤال: لِمَ أجّلت الانتحار إلى هذهِ اللحظة؟ أي، لِمَ اخترت هذا التوقيت بالذات؟

* حسنًا، هذا هو الدرس الأوّل، لا تسأل المنتحر عن سرّ اختياره للوقت.

- هاها، تشبه نصيحة، لا تسأل المرأة عن عمرها.

* اسمع، أولًا، المُنتحر شخص، قرّر هذه النهاية منذ البداية، فهمَ العالم بما فيه الكفاية، لكنه أجّل ذلك، لاعتقاده أن فهمه كان خاطئًا -وطبعًا أقصد المنتحر قناعةً، لا يأسًا- خذ تجربتي مثلًا، أوّل مرّة حاولت فيها الانتحار، منعوا ذلك، فقلت لنفسي، ربما لهذا الحدث مغزى، بدأت صفحة جديدة، فاكتشفت الأمر ذاته، وحاولت الانتحار مرّةً أخرى، لكنّي فشلت أيضًا، وأعدتُ الكرّة، وتأكّدت لدي القناعة نفسها، لذا، فأنا لن أسمح لأحدهم، أن يعيدني إلى القفص، لستُ غبيًا، إلى هذا الحد.

- وثانيًا؟

* آه، أن تستخدم هذا الرّد، على سؤال: "ما دمت، مقتنعًا إلى هذا الحد، لِمَ لا تنتحر الآن يا مجد؟"، بأنّك تحاول البحث عن سبب يمنعك من الانتحار.

- وهذا تمامًا، ما أردت قوله لهم، أنّك فعلتها، لا يأسًا ولا قهرًا، لهذا عندما أفعلها، سأنتحر وأنا بالمثالية الكاملة، بعد ألّا أترك لهم سببًا، يعوّلوا عليه، وهذا ما حاولته أنت، لكنهم شوّهوا موتك، سنّة كاملة، وأنت مُختفٍ، أردت أن ننساك، حاولت أن تلاقي خلاصك، بكامل الهدوء، ولم تنتظر أن نكتب عنك، أو نبكيك، أو أي هراء نمارسه، هذا ما أخبرتهم إيّاه، أنّك لم تقدم على فعلتك، يأسًا، بل وعيًا، وعيًا صار أكبر، من أن يحتمله العالم.

*جيّد أن هناك من يفهمني.

- بل أنت الذي يفهمني.

* كيف؟

- حسنًا، سأعترف، منذ أسبوع وأنا أفكّر بعدمية هذه الحياة، بوجودنا هنا، بما نفعله. صراحةً، لا أعرفُ ما الذي أريده، من هذا العالم السّافل. أشعرُ وكأني خطأ زائدٌ عن الحاجة، ربما دوني، كانت غرفتي أكثر شاعرية، وحبيبتي عيونها أوسع، كذلك جثتي، لو لم أفرضُ نفسي عليها، كضيفٍ ثقيل. ها أنا حاضر كندبة، في وجه الخطيئة، وأرمي الأيام، كلاعب نردٍ مبتدئ، ماذا لو كنتُ لا أفهم الأمر جيدًا، مثلًا، بأن السجائر هي من تتلذّذ بإحراقها، لا أنا، بأن الحياة مجرّد مزحة طويلة، لكني لا أجيد الضحك! كيف سأحترق؟ من يجيبني؟

* قال نبيٌ مرةً: "في التخلّص من الحياة، حرمان من سعادة السخرية منها. هذا هو الردّ الوحيد، على من يخبرك بأنه يرغب بالتخلص منها"، وكان يُدعى سيوران، لكن كيف لشاهدة قبر في مونبارناس، أن تسخر، من العشب الذي يحيط بها، كسكاكين؟

- تمامًا، يعني رغم أنها لا تعنينا، لو أردنا السخرية منها، فلن ننجح حتّى، لا جدوى من البقاء، ولا الموت.

* لذلك، ولأني أحب أطفالي، لن أنجبهم، هكذا أحسُّ، أنّي أفضل أب في العالم، هذا ما يجعلني أشعر، أني تركت أمرًا عظيمًا ورائي.

- وراءك! ما قيمة أن تترك شيئًا ما ورائك؟ أن تخلّد اسمك، طالما أنّك ستموت في النهاية؟ ما فائدة أن يكتب العالم عنّي، أو يقرأني حتّى؟ ما الذي أردته عندما كتبت كل ما كتبت، وما سأكتب؟ أنني عشتُ هنا، بلا فائدة، الوعي هو مأساة البشرية، وخلاصي أنا، جرّبت الموت من قبل، وعشته، مع كل قصّة، كل فيلم، كل سيناريو الحياة الذي عشته، مع موتك أنت. طالما أن الاستمرار في العيش يؤدّي إلى الموت، والانتحار كذلك، فلِمَ نمنع الناس من الاِنتحار؟ لِمَ نؤخر الموت؟ يا للسخافة! ولِمَ كتبت كل تلك القصص، ونكتب هذا الحوار الآن؟

* ربما، تحاول كتابة وصيتك.

- ربما.

* هاهاها، هناك من يتمنّى حياة أخرى.

- (يريدني أن أعيد له تلك العبارة التي يحبّها، من "اعترافات أو هلاوس"): وكأن حياة واحدة لا تكفي؟

* تكفي بالطبع، لكن هل ميتة واحدة تكفي لننجو؟

- (أحاول أن أغيّر الموضوع، لكنّي أشك بنجاحي): عندما كنت صغيرًا، لم أكن أطفئ التلفاز، كنت أخاف أن يموت البطل، بطلي الذي يواجه الأشرار، والآن اكتشفت كم كنت أنانيًا، تركته يواجه كل هذا، حتّى أفرح بانتصاره، وأضحك، لو أنني أنهيت هذا المسلسل من البداية لارتاح.

* أي مسلسل؟

- الحياة.

*ولهذا السبب أنت لا تعطي المتسوّل مالًا، حتّى لا تكون أنانيًا؟

- لكن لو أني لم أعطهِ حتّى، لشعرت بتأنيب الضمير أيضًا، والأهم أنني لو فعلتها، لأشعر بتميزي عنه؛ أي أنني لو امتنعت عن إعطائه، حتّى لا يُفسر الأمر على أنه أنانية، ستكون هذهِ أنانية أيضًا.

* وكذلك قول آسف، لأحدهم.

- قلت لك: فعل الفلسفة، يُفقد الأشياء بهجتها.

*هل قرأت قصّة القتل غير المباشر في التلمود اليهودي؟

- (ألم أقل لكم، أنه لا يريد تغيير الموضوع، أو يبدو أنني لم أغيّره أصلًا): ها أنا أسمعك.

* تقول الآية في سفر التثنية: "لا ترفع يدك لتقتل، لكن إذا سقط الغريب في هوةٍ، وقام اليهودي بسحب السلم، ومات الغريب، فلا يعتبر هذا قتلًا، بل موتًا ربانيًا".

- إذن الله هو من سحب السّلم، ماذا تريد؟

* لا بل خلقنا في الحفرة، وسُمّي الأمر قدرًا فيما بعد، والانتحار هو سلّم النجاة.

- ها أنت مرّة أخرى، متى ستكفّ عن هذا الدلع الزائد؟ تريد أن أمنعك عن الانتحار؟

* بل أن تدفعني.

- لا تقلق، سيجيء الموت، وتنجو.

* هاها، هل قرأت كتاب جمانة حداد، "سيجيء الموت ويكون له عيناكِ؟"

- سنتحدّث عنه بعد أن تنهيه.

* انتظر، ماذا لو كان كل هذا خطًأ؟

- كيف؟

* بأننا نعتقد أن هذه هي الحياة، وذاك هو الموت، لا العكس؟

- نتحدّث فيما بعد، عليّ الذهاب.

المساهمون