دمشق التي رأيتها

دمشق التي رأيتها

05 مارس 2019
(من جرمانا قرب دمشق، تصوير: لؤي بشارة)
+ الخط -

لم يستطع الجو العابق برائحة شتاء مبكّر أن يحجب انبثاق كآبة غامضة وشحت ذاك النهار الدمشقي الجميل.

كان ذلك بعد أيام من وصولي إلى دمشق، الوقت عند العصر. خرجت من البيت، انزلقت بجسدي داخل سيارة أجرة في رحلة إلى قلب المدينة، أمارس خلالها طقوس شوق أضناه البعاد، إلى لقاء كنت أحسب أنه لن يأتي. وقد لا أرى دمشق الخارجة من حرب مروّعة. اعتقدتُ كما اعتقد الجميع أنها قد تكون بلا نهاية، أو على الأقل بلا نهاية قريبة، وإن كانت لم تنته بعد.

ربما يتوجّب عليّ ألّا أستنكر حرباً قد تُستأنف، ولا أتجاوز الخطوط الحمراء، ويتحتّم علينا نحن السوريّين أن نتذكّر أن الحروب مهلكة الزرع والضرع، ولا بد من تقديم القرابين، ضريبة الاستمرار في العيش. هذا هو جوهر القضية اليوم، النظرية المتداولة، لكن أي استمرار، وأي عيش هذا؟!

أُمعن النظر في ما حولي، يأخذني مزيج من الشوق اللاهف، ويغلب عليَّ الفضول الواجف، قلبي يعتصر عصراً. ألفّ الشوارع بنظر زائغ، لا أنحاز إلى شيء محدّد، دمعتان تجمّدتا في عينيّ لم أشعر بهما، إلّا حين فُوجئتُ بصوت السائق يسألني مشفقاً، وعيناه ترمقانني من مرآة السيارة: "خير يا ست"؟

هذه المرة الأولى التي أسمع فيها لقب ست. في العادة يقولون يا امرأة، أو يا حجة، أو يا أختي، أو لا يقولون شيئاً.

فوجئتُ بصوته ووجوده، لم أجب، تابع وهو يهز رأسه بأسى: "معك حق، الجميع يبكي".
كأنني كنت أنتظر هذه الكلمات، لأطرح السؤال الذي شعرت أن جوابه جوابٌ على مخاوفي: "ولماذا يبكي الجميع، ما الذي يجري"؟
- ألا ترين، ذُل وقهر وجوع، ما في كرامة. قالها بحرقة.
لملمتُ دموعي ودهشتي ونزلت من السيارة.

استوت دمشق أمامي، مدينة خارجة من الحرب، بعد غياب طال سبع سنوات، مثخنة بالجراح، ملوّثة بالفوضى، مسربلة بالهموم.

عالم واسع من التناقضات العجيبة تحت عناوين ضخمة، تبرزها أكوام اللافتات والشعارات والإعلانات، تغطّي الفضاء الواسع، تكاد لا تترك قيد أنملة لمكان فارغ. لافتات ضد الاٍرهاب والإرهابيين والطائفيين، إعلانات منمّقة وأحياناً مضحكة، غساّلات وبرّادات من آخر طراز، طناجر وأدوات مطبخ حديثة، دعايات للموضة والتنحيف، أقلام حمرة، وملابس داخلية مثيرة، شعارات النصر والانتصار والأمل بغد مشرق.. تتزاحم كلّها وتختلط. صورة تراجيدية لسورية جديدة ما بعد الحرب.

فاجأني الازدحام، فاجأتني الروائح، فاجأتني الفوضى. بحر عائم من السيارات، سيارات فخمة تخطر بخيلاء، وسيارات قديمة تئن متهالكة. وما بينهما سيل من البشر، حشد غاضب يسير هائما بين السيارات، لا يلوي على شيء، الأمور سيان لديه، حياته تبدو لا قيمة لها، الشرطي يقف جانباً متثائباً، غريباً عن المكان، كأنما الأمر لا يعنيه. يصدمك أحدهم قصداً، وربما غير ذلك، ويتابع سيره غير عابئ، ولو باعتذار عابر.

مطاعم فخمة، مقاه، وجوه غريبة، روّادها يدخّنون النرجيلة باسترخاء الأموات، ينفثون سحب الدخان دونما اكتراث، يتثاءبون الأحلام، ويعمّرون قصور الدخان. لا شيء حقيقيا، كأنما اللامعقول يصنع الجنون، لا القلق. أقوال كثيرة وأفعال قليلة، في ذاك البلد المجروح حتى العظم، بينما العالم، أدار ظهره له وتركه يواجه مصيره وحيداً.

في الليل، يرتدي السهارى ثوب الفرح المزعوم، ويمتطون أكذوبة فقيرة هزيلة الإخراج، مسكونين بتلابيب نظرية هشّة: "ما بدنا نموت، بدنا نعيش". أسواق فخمة تضجّ بالبريق، ومخازن أنيقة تتباهى بأضوائها الملوّنة، ضحكات وهمهمات وهمسات مغرية، مزامير السيارات تتسابق من الجهات الأربع، تتعالى منها أصوات ألحان ممطوطة لأغانٍ هابطة بلا معنى. مطاعم تختنق بروّادها المنتفخين بأسعارها الكاوية. لا تجد لك مكاناً فيها، فتمضي أو تقبع وحيداً في ركن قريب، ترقب ما يحدث متسوّلاً بعضاً من رائحة فرح زائف.

يتمدد اليقين، هشّاً وخائباً، في بلد يتسكّع فيه الخراب، ويدير ظهره للقانون، يمضي فيه الإنسان يبحث عن لقمة عيش، يخطفها من أنياب الغلاء والتضخُّم والعجز الاقتصادي والحاويات... والتنظير، ما دام الكلام ببلاش. لا بارقة أمل بغد نظيف، فأنت غير محمي، سلاحك من خشب، تجابه به تغول المكان والزمان الضاري.

تُرى من يدير هذا البلد المزدحم بالفوضى؟
سؤال بسيط ومفتوح، يدور في خلد السوريّين الذين يشهدون مأساتهم، الجميع يعرف، ويشيح النظر عنها، هذا أسهل لاستمرار النظرية الأكثر تداولا الْيَوْمَ "بدنا نعيش". والأفضل تحويل الموضوع الى مجال هائم مفتوح للتنظير والاستنباط والبحث والتأويل إلى ما شاء الله، الأفضل الحفاظ على هذه الصورة النمطية. لو أزحنا الستار عنها قليلاً، لتراءى لنا بجلاء عالم يعوم فوق بحر من الفساد والفقر والرشوة، يلخّص صورة عالمنا الجديد، الأكثر تراجيدية وحماقة وتعسفاً.

لا جواب إزاء هذه الأكوام المكوّمة من الإحباطات. وإذا كان ثمّة من قناعة، فلا بد أنها القدرة الإلهية، وحدها تبدو ما تزال قادرة على حماية بلد تتقاذفه مقولة "البلد على كف عفريت".

من الصالحية والبحصة إلى سوق ساروجة، وصولاً إلى شارع الثورة، فالمدينة القديمة. أتوغّل في حاراتها وأزقتها وزواريبها، وروائح الياسمين والليمون والنارنج ترافقني وتشرح صدري، أنا المدنفة بعشق الشام.

بعد غياب سبع سنوات، تعانقت مع صديقاتي، في العيون غربة، وفِي القلوب غصة، شربنا القهوة، تحدثنا وضحكنا. العجيب، أننا نحن السوريين، لا نزال نملك هذا الشيء الآسر والساحر، رفاهية الحب والشوق والدموع واجتراح الذكريات، كانت بحد ذاتها نسمات مهفهفة بالأمل تداهمنا، سواء في داخل الوطن أو خارجه، وهذا أيضا ابتداع جديد، اختلقته الغربة، وفرضته محنتنا السورية.

المطر بدأ لتوه، مضيت تحت رذاذه، أبحث عن هواء نقي، وبعض من الطمأنينة.


* كاتبة سورية

المساهمون