رحلة خاصة في فرنسا لزيارة أقدم سجين سياسي عالمياً

رحلة خاصة في فرنسا لزيارة أقدم سجين سياسي في العالم

20 أكتوبر 2019
أمام سور السجن في زيارتهم السنوية التقليدية(العربي الجديد)
+ الخط -
انطلقت الحافلة من "ساحة الجمهورية" في باريس عند العاشرة والنصف من ليل الجمعة الماضي، تسابق الزمن من أجل الوصول إلى مدينة لانيميزان الفرنسية غير المعروفة كثيراً، التي تبعد مسير ما يقرب من عشر ساعات. والهدف هو الاقتراب من السجن الذي يقبع فيه المناضل العربي الكبير، جورج إبراهيم عبد الله، الذي عرف سجونا فرنسية كثيرة منذ اعتقاله عام 1984، وهو يقبع اليوم في السجن شديد الحراسة، والذي يضم مناضلين باسكيين وغيرهم.

تقليد سنويّ ابتدعته مجموعةٌ من المدافعين عن حقوق الإنسان في فرنسا، من عرب وفرنسيين، من أجل إيصال رسالة إلى جورج عبد الله، أقدم سجين سياسي في العالَم، مفادها أنه في القلب، وأن ثمة من يناضل من أجل إطلاق سراحه، وأن على السلطات الفرنسية أن تصلح خطأ قضائيا فظيعا، إذ كان من المفروض أن يعانق جورج الحرية عام 1999، لولا الضغوط الأميركية والصهيونية، ولولا وزراء فرنسيين يأتمرون بأمرهم، وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، يريدون من جورج أن يتخلى عن فلسطينيته وأن يعبر عن ندمه.

بعض من في الحافلة يواظب على الحضور سنويا، إلى جانب المشاركة في كل الأنشطة التي تُعقد في فرنسا للتذكير بقضيته، وبعضهم الآخر جديدٌ، وخاصة من الشباب. وإذا كانت إحدى الرائدات في هذا النضال، وهي كاترين غروبي، المسؤولة في جمعية "مْراب" لحقوق الإنسان، في حالة صحية خطيرة، ما جعل الجميع في وضعية حزن عميقة، فإن المناضل السياسي والمؤيد لكل القضايا العربية، آلان بوجولات، الذي حوكم لأنه شارك في مظاهرة غير مرخصة دفاعا عن غزة عام 2014، موجود فيها، وهو من بين منظّميها النشطين، إلى جانب حزبه السياسي "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية"، الذي أرسل فيليب بُوتُو، مرشحه للانتخابات الرئاسية للحضور أيضا، إلى جانب جمعيات حقوقية عديدة.

عشر ساعات قبل أن تصل الحافلة إلى هذه البلدة، وتحديدا إلى المقهى الوحيد المقابل لمحطة القطارات التي لا تزورها القطارات إلا في النادر. وهنا يلتقي أنصار جورج عبد الله، القادمون من باريس مع القادمين بالحافلات من تولوز وبوردو، ومن بلجيكا، وهذه المرة من سويسرا وإيطاليا أيضاً.

أقبلوا من مدن فرنسا ودول أخرى للتضامن مع أقدم سجين سياسي في العالم(العربي الجديد) 

وليس سرا أن من أسباب إبعاد جورج عبد الله إلى هذه المدينة البعيدة، هو دفع الناس لنسيانه، وتصعيب اللقاء به وزيارته من قبل المدافعين عنه، وهم في الغالب من الفقراء. ولا أدلّ على هذا من كون الأحزاب السياسية اليسارية الفرنسية لا تولي المسألة أهمية تذكر، بل إن الحزب الاشتراكي، ومانويل فالس وكريستيان توبيرا، من أعضائه، كان متوافقا مع اليمين، أثناء الحكم عليه.

ومن حين لآخر تصدر مواقف من بعض المناضلين اليساريين والشيوعيين، مطالبة بإطلاق سراح جورج، مثل ميلانشون والإيكولوجي نويل مامير، والشيوعي أندريه شاسينيي، ورجل الدين مونسنيور غايو وغيرهم، ولكن أقصى اليسار هو من يحضر، بشكل قوي ومتواصل. 
 
الدعوة لإطلاق سراحه (العربي الجديد) 

اللقاء في مدينة لانيميزان فرصةٌ لتنظيم معرض صغير في عين المكان، تباع فيه قمصان تحمل صورته وبعض الدوريات والملصقات، إضافة إلى عُلَب شاي يذهب ريعها لتمويل الأنشطة الخاصة بقضية جورج. كما يتم تبادل الآراء والنقاش حول كل القضايا التي تهم حقوق الإنسان والمواطن. وكانت هذه الفرصة مناسبة للقاء مع بعض نشطاء "السترات الصفراء". كما حضر، في لفتة جريئة ونضالية، جان مارك رويان، وهو أحد مؤسسي حركة "العمل المباشر" إلى جانب رفيقته ناتالي مينيغون، للتأكيد على دعمهما لقضية رفيق جان مارك رويان في السجن، وإدانة القرار السياسي الفرنسي وأيضا المنظومة السجنية. كما أنهما لا يتوقفان عن المطالبة بإطلاق سراح جورج عبد الله.

في الساعة الثانية بعد الظهر، تجمع أكثر من 500 شخص من المشاركين، وانطلقوا بمظاهرة باتجاه السجن الذي أصبح معروفا، بسبب وجود جورج عبد الله فيه، إضافة إلى مناضلين تعتبرهم السلطات الفرنسية إرهابيين. الشعارات هي نفسها، في كل مرة، "إنه في قلب نضالاتنا/ونحن في قلب نضاله/الحرية لجورج عبد الله" و"حياة نضال بـأكملها/الحرية لجورج عبد الله" و"عبد الله، عبد الله، رفاقك هنا" و"فلسطين ستحيا/فلسطين ستنتصر/الحرية لجورج عبد الله" و"بالروح بالدم نفديك، يا فلسطين" و"قاطعوا دولة إسرائيل الإجرامية" و"حرروا غزة، حرروا جورج عبد الله" و"السجن المؤبد بربرية" و"35 سنة من السجن/35 سنة من النضال/الحرية لعبد الله" و"يحيى الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني"، وغيرها من الشعارات بلغات إقليمية فرنسية.

أمام بوابة السجن النائي والشديد الحراسة (العربي الجديد) 

وصلت المظاهرة إلى السجن، ويبدأ المتظاهرون بطَرْق شبابيك السجن بالحجارة، وإطلاق مفرقعات نارية، مع شعارات محتدة، حتى تصل الأصوات إلى داخل السجن، وإلى أذني جورج عبد الله. ومع وصول المتظاهرين أمام باب السجن، تعالت الشعارات ونُصبت اللافتات على بابه، وأعطيت الكلمة لممثلي الجمعيات التي تناضل من أجل إطلاق سراح جورج.

رسالة جورج عبد الله للمتظاهرين

تميزت المظاهرة التي تمت تحت شعار "تقارب النضالات" وتضافرها بين المدافعين عن جورج وبين "السترات الصفراء" والجمعيات المناهضة للعنف البوليسي، والباسكيين والكاتالونيين، بكلمة أرسلها جورج إبراهيم عبد الله من زنزانته، قال فيها: "على أعتاب فجر السنة السادسة والثلاثين من الاعتقال، أنتم لا تعلمون حجم القوة والحماس الذي يقدمه لي حضوركم، هنا، في هذا المكان المرعب، عبر الأسلاك الشائكة والأبراج التي تفرّق بيننا(...) وها نحن دوما معا، واقفين بقوة، في مواجهة سنة تبشر بكثير من النضالات والأمل".

وأضاف "إن تضامنكم وتعبئتكم على اختلاف التزاماتكم تثلج صدري، وبالفعل، فعلى مرور العقود الماضية لم يخذلني هذا التضامن، أبدا، يا رفاقي. وإنّ مَن رَاهَن على انحسار زخمكم التضامني، أصيبوا بالخيبة". وتابع في رسالته "ليس سهلا مواجهة الشعور الضار والخطير وراء القضبان، حين نكون قد عايشناه خلال أبدية صغيرة(...) وإذا ما استطعنا أن نظل واقفين طوال هذا المسار الطويل، فإنه من واجبي أن أقول إنه بفضل مختلف المبادرات التضامنية التي عرفتم كيف تطورونها في كثير من الأمكنة، طوال هذه العقود".

مسيرة نضالية طويلة تلقى التعاضد والتضامن خصوصاً من اليساريين (العربي الجديد)

وواصلت الرسالة: "من الصعب، رفاقي، تخيل مقاومة سياسة السحق التي يتعرض لها الفاعلون الثوريون المسجونون، من دون تعبئة تضامنية (...) إلى جانبي يوجد رفاق باسكيون شجعان يناضلون دوما، ومنذ فترة طويلة، يُرفض لهم بشكل دائم، تكييف عقوباتهم أو تعليقها، كما أن محكمة الاستئناف رفضت قبل أيام، طلب الإفراج المشروط الذي تقدَّم به الرفيق فردريك شيستور، بعد ثلاثين سنة من الاعتقال. بَابُون (المجرم المسؤول عن إلقاء جزائريين في نهر السين وجرائم أخرى)، استفاد من تعليق مدة عقوبته لأسباب طبية، بينما الرفيق إيبون فرنانديز، لا يزال هنا في السجن، رغم حالته الصحية ورغم آراء العديد من الخبراء الطبيين".

وأضاف جورج بأن "الدوائر السياسية هي وراء هذه القرارات". وأكد أنه غير واهم فيما يخص وضعيته في السجن، إذ "لا تزال كثيرٌ من الأشياء التي يجب فعلها من أجل الوصول إلى حل إيجابي، وكما تعلمون فلا يكفي أن تقوم دولة لبنان بالإلحاح في المطالبة بإطلاق سراحي، بل يجب على ميزان القِوى الحقيقي، أن يفهِمَ ممثلي الإمبريالية الفرنسية بأن اعتقالي أصبح، وبشكل حقيقي، أكثرَ وطأة من التهديد الملازم لإطلاق سراحي. فقط في هذه الحالة، لن يجد أمر ترحيلي إلى لبنان أي اعتراض".


ضغوط أميريكة وإسرائيلية لعدم الإفراج عنه (العربي الجديد) 

ثم وجه نداءً بالقول "لهذا، رفاقي وأصدقائي، فإن التضامن الأكثر ملاءمة الذي يمكن تقديمُه لكل فاعل ثوري مسجون، هو ذلك الذي نطوره دائما، بشكل مضاعف، في أرض النضال ضد نظام الاستغلال والهيمنة". واعتبر جورج عبد الله أن القضية الفلسطينية تمر بوضعية صعبة، بسبب تحالف الرجعيات العربية مع الكيان الصهيوني. وعبر عن الأمل "فلتُزهر ألف مبادرة من أجل المقاومة الفلسطينية الواعدة. ومعا سننتصر".

فيلم عن جورج نصرالله وظلم القضاء

وبعد كلمة جورج عبد الله تدخل كثيرون، متحدثين عن مختلف أنشطتهم ونضالاتهم، ومن بينها مداخلة أوليفيا زيمور، رئيسة جمعية "يورو-فلسطين"، التي ركزت على ضرورة ابتداع عمليات مثيرة من أجل التعريف بالنضالات، سواء تعلق الأمر بفضح الصهيونية وتكثيف حملات المقاطعة أو التعريف بقضية جورج عبد الله. وعبرت في هذا الصدد عن ابتهاجها بقرب ظهور فيلم وثائقي عن جورج، من إنجار المخرج الفرنسي بيير كارل، وهو ما "سيُعرّف كثيرين عن هذا الظلم القضائي الكبير".

كما تحدث فيليب بوتو، المرشح الرئاسي لـ"الحزب الجديد المناهض للرأسمالية"، فأكد أن حزبه وقف، منذ البداية مع قضية جورج العادلة، ونوَّهَ بالحضور الدائم لرفيقه آلان بوجولات، في كل نشاط وحراك لصالح جورج عبد الله، منذ البدايات الأولى.

جورج عبد الله رفاقك هنا (العربي الجديد) 

وأكد كل المتدخلين على أن نضالاتهم لن تتوقف حتى يعود جورج إلى بلده لبنان، وقضيته فلسطين، متمنين ألا يكونوا مضطرين للعودة، العام القادم، إلى هذه المدينة الصغيرة، التي اشتهرت بسجنها، لمختلف خصوم النظام الفرنسي، من السياسيين.

"ليس لأننا لا نريد العودة، العام القادم، بل، فقط، والله يعرف دواخلنا، لأننا لا نريد أن يظلَّ جورج عبد الله، يوما واحدا في هذا السجن الفظيع"، تقول سلمى، وهي جزائرية في الستينات من عمرها، والكلمات العربية تخرج من فمها، بصعوبة. وهي تأتي للمرة الخامسة إلى هذه المدينة.

ألقي القبض على جورج عبد الله، وهو العضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي اللبناني، في عام 1984 وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة في عام 1987 بتهم تتعلق بالنضال العربي الفلسطيني ضد إسرائيل.