شحرور الغناء

جلس العندليبُ الزريابُ الأزرقُ شامخاً في قعدةٍ سرمديةٍ، أخذ مكانه بين نساء الطاسيلي، تفقد آلة عوده الأسمر، وبنحنحة مبحوحة رد طرف لباسه على كتفه المنبلجُ سروراً من أديم الأرض، وزحزح نقابه المهيب، وزّع صدقات من ابتسامته العريضة، دق على الميكروفون دقا، ثم مال قليلا برأسه يناجي ذلك العود الذي تتأدب مفاتيح أوتاره في حضرته البهية.
المرحوم عثمان آغ بالي، وهج المكان، الزمان والطبيعة، عندليب الأغنية الأمازيغية التارڨية، دون حواجز لغوية. تمايل صاحب رائعة "دمعة سالت على الخدين، بين الكاف والنون... آساروف إيميدون"، يطلب الصفح، يرقص هنيهة برأسه المتخم بثقل جده الشاش المتناسق الألوان والزخارف بشكل بديع، مع فرقته النسوية الحريرية التارقية، حيث انطلقت تروي حكاية مجد "جانت" والصحراءُ فسيحةً السكينة والسكون، تمنحُ عيونه الغموض الواسع الأفق. يُكور العمُ عثمان عَمامتهُ، مناجياً رَبهُ الذي يُكور الليلَ على النهار، ويُكور النهاَر على الليل، مرددا "أمين أمين ..اللهم أمين".
عثمان آغ بالي، طبيب العود الذي شج به رأسه منتصف السبعينيات، لما أدخله على الطابع التارقي، وكانت إضافته مرفوضة لكنه ناضل وعاند ونجح. هو ممرض التراث، كان سفيرا وضاءا لمهجته، سافر لأوروبا وأميركا وأسيا واستراليا... وتحت وجهه المتدثر خَلفَ الِلثام، تستحي تجاعيد الحياة التي حَفرت فيه تفاصيل سمراءٌ منيرة، بعدد قوافل جمال الأهقار ورمال الطاسيلي، والغبار ورحيق الغضار في قسوته الزمردية لأبناء عمتنا الخيمة وسيدنا الطين.
لازال المرحوم السلطان عثمان، يجلس متربعا على عرشه الفني التراثي العريق، وقد رحل منذ 13عاما غريقا عنيدا في واد جانت الطاسيلي، وما زالت نحنحته متواصلة تتمدد، تتجدد ولا تتبدد، تتردد هنا في الصحراء، يوجدُ كل شيء في اللاشئ... وفي كلِ شيء لا يوجُد شيء.
تواجه بصفرتها سماء صافية، بلون البحرُ الأزرقٌ وحرير"البازان"، عنواناً للباسه، تضامناً مع البحرِ في سعتهِ وسفنهِ وملحهِ وموجهِ. ومع السماء، في بعدها، طولها، عرضها ونُجومهاِ وغُيومها، كان صوته الشجي ُسفينةُ يعبُر بها مُوجِ البراري والصحاري، خرجَ منها ولم تخرج منه، من عمقها دار حُول حزام الأرض في الوِهاد الواسعة بتراثه وعوده ودمعته ودعائه لذلك من باديتها، كان يبُعث الأنبياء والأصفياء والأولياء، تجمعهم آمين، آمين بقدرة مالك الكاف والنون.