عارف حجاوي: كأنّها تمارين لغوية يومية

عارف حجاوي: كأنّها تمارين لغوية يومية

09 يوليو 2020
يقدّم الآن برنامج "سيداتي سادتي" على "التلفزيون العربي" (ديما شريف)
+ الخط -

لا يحتاج عارف حجاوي إلى تعريف. صوته عرّف به طوال سنوات عبر إذاعة "بي بي سي"، والآن، قد انتقل إلى التلفزيون، عبر أكثر من شاشة، وصولاً إلى التلفزيون "العربي" في لندن حالياً، متيحاً لمتابعي التلفزيون اختبار تجربة نوعية، تحضر فيها "اللغة العالية" ضيفاً غير ثقيل.

ابن مدينة نابلس الفلسطينية، المولود عام 1956، يمتلك تاريخاً طويلاً مع الصوت والكلمة المكتوبة... والتواضع. حين طلبنا منه موعداً لهذا الحوار، كانت إجابته "مَن أنا كي تُنجزوا معي حواراً؟". وحين أتى الموعد (كان الحوار عبر سكايب)، حاول في بداياته تلطيف الجو، فقال: "ماذا يفعل شاب يمني في بيروت؟".

النبرة والكتابة

من تابع المسيرة المهنية لحجاوي، الممتدة لعقود التي تنقّل فيها بين "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، وشبكة "الجزيرة"، قبل أن ينضم إلى أسرة "التلفزيون العربي"، مقدماً خلالها عشرات البرامج الإذاعية والتلفزيونية، يعرف جيداً لماذا استطاع أن يحجز لنفسه مكاناً مميزاً بين المستمعين والقراء؛ فهو يكتب كما يتكلم. يمكن ملاحظة ذلك عندما تستمع إليه أو تقرأ كلماته المكتوبة في مقالة أو في أيٍّ من كتبه التي تنوعت بين تلك التي خصصها للغة العربية وقواعدها، أو للشعر، وحتى السياسة.

يقول حجاوي في حديثه إلى "العربي الجديد" إنّ "كلّيات الصحافة تقوم بتعليم الطلّاب شيئاً، وأود أن أُخالفهم، يقولون إن الكتابة للراديو مختلفة عن الكتابة للصحيفة، مختلفة عن الكتابة للتلفزيون. أنا أتفهم الأشياء التقنية، حسناً، ولكنّي أقول إن الكتابة في كل الوسائل الإعلامية، حتى للكتاب، هي حديث والحديث أسبق من كل كتابة. إذا كتب الإنسان كما يتكلم، فقد استطاع أن يحقق شيئاً مهماً. أنا، ربما وعبر ميكرفون الإذاعة، تعوّدت أن أكتب كما أتكلم". ويضيف: "كأنني أصبحت أكتب الكلمة السوداء على الورقة البيضاء مثلما أنطق، كأني أحكي مع القارئ، أعتقد أن هذا يحقق تواصلاً أفضل، وربما نجحت في ذلك دونما قصد بأني أكتب مثلما أتكلّم، ولكن ربما عملي في الإذاعة ساعدني على ذلك".

بالنسبة إلى عارف حجاوي، فإن المستوى الذي وصل إليه بالمعرفة والإلمام بأصول اللغة العربية، لم يكن له علاقة بالمدرسة والتعليم النظامي، خصوصاً أن علاقته بالمدرسة لم تكن جيدة، وسبق أن جرى التطرق إلى هذا الأمر عدة مرات. لكنه، بأسلوبه السردي، يلخّص الحكاية في حديثه إلى "العربي الجديد" حول تقلّب علاقته بالمدرسة: "لم تكن المدرسة تقدّم لي الفائدة التي كنت أتمنّاها، أو التي كان عليها أن تقوم بتقديمها. المدرسة تقيّد الفكر، وهذا الشيء كنت أسمع عنه في الغرب كثيراً. لكن نشأ في أعماقي قبل أن أتعرّف على ما يقوله التربويون في الغرب. لقد نشأ في أعماقي أن العلم يأتي مع الرغبة، يأتي بشلال متدفق. عندما رغبت ــ في زمني ــ في تعلّم شيء، كنت أتعلّمه في زمن قياسي وبسرعة عجيبة، وألتهم المعلومات والتجربة". يستذكر حجاوي كيف أنه تعلّم كتابة النوتة الموسيقية بنفسه، لم يجلس مع أُستاذ أو موسيقي، ولم يكن طالباً في معهد موسيقي في حياته.

يقول: "كانت الرغبة شديدة لديّ مع بعض الكتب وأعتقد بأني نجحت، الرغبة هي الدينامو الذي يجعلك مدفوعاً لفعل مهارات بعينها".

خطأ العارف

حجاوي دائم التذكير بأنه يُخطئ. في مقدّمة كتابه "غلط غلط" (2014) الذي يعرّف عنّه بأنه "كتاب مقولٌ قولاً، لا مكتوبٌ كتابةً، فاقرأْه بأُذُنيْك"، ولا سيما أنه كان يلقي فصوله قبلها بسنوات عبر إذاعة "أجيال" في رام الله، يشكر مدير شبكة "أجيال" وليد نصار "الذي كثيراً ما كان يوقفُني مصحِّحاً غلطة نحْوية، أو منبِّهاً إلى التواءة لسان".

يتحدث عن القضية نفسه في كتابه "اللغة العالية" (شبكة الجزيرة، 2019 ــ طبعة ثانية)، قائلاً في مقدمته: "وجه الصواب غائم في الفصحى المعاصرة؛ لا يكاد المرء ينطق بعبارة إلا شكَّ في كلمة من كلماتها. نخطِئُ كثيراً، ونخطِّئُ الآخرين كثيراً". أمّا في نهاية المقدّمة، فيقول بعد أن شكر أسماء كثيرة: "فما بقي من أخطاء وأوهام فمن جهلي وتقصيري".

وعندما نسأل حجاوي عن كل هذه الاعترافات، يوضح المسألة، واضعاً إياها في خانة "الاعتراف بالجميل، هذه الاعترافات مزيج من التواضع الكاذب، ومن التواضع الحقيقي ومن العرفان بالجميل. والواقع أني لم أكن أقع في الخطأ بالقصد، أنا أقع في الخطأ النحوي والإملائي كأي خطأ يقع فيه الناس جميعاً". وبالنسبة إليه، فإن "الذين قاموا بالتصحيح لي كان لهم فضل كبير وكان عليّ واجب الاعتراف بهذا، لكن هذا طبعاً تكتيك، يُحسن أن يتبعه بعض الناس وأن يتواضعوا بشكل واعٍ، وهذا أفضل من التكبّر بشكل واعٍ أو ليس واعياً".

يضيف: "لن أخسر شيئاً لو قُلت إن شخصاً صحح لي، لو أقررت بأن عارف يُخطئ في اللغة. وبالمناسبة، كما قلت سابقاً، لم أنشأ في المدارس التقليدية التي يحفظ فيها المرء ألفية ابن مالك، نشأت في مدارس حكومية تقليدية من تلك الصانعة لتعليم معقول وليس عميقاً، وبالتدريج ازدادت معرفتي باللغة".

معرفة لم يبخل حجاوي في محاولة تعميمها من خلال عشرات الكتب في رصيده، من بينها كتاب "اللغة العالية". يقول إنّ الكتاب كان محاولة منه على نحو شخصي لتمتين لغته الخاصة. يتوقف قليلاً ليوضح أن الأمر ليس تواضعاً لأنه مع كل شغل يقوم به يشعر بأن لغته أحسن من قبل: "كل يوم، ومع كل شغل وكتاب، أقوم به كأنه تمرين يومي، كأنه سياق دراسي صارم، وأشعر معه بأن لغتي، مع كل يوم، هي أفضل من اليوم السابق حتى لو كان تدرجاً بطيئاً".

رهبة الكاميرا

لسنوات طويلة، بقي حجاوي خلف ميكرفون الإذاعة قبل أن يقف أمام عدسة الكاميرا. قلّة من يقدرون على تجاوز رهبة الوقوف أمام تلك العدسة. نسأله: أليس لمسألة الوقوف أمام الكاميرا رهبة؟ يجيب: "لا أدري إن كان لها رهبة. لم أشعر بذلك أبداً، وقفت أمامها وأنهيت حديثي سريعاً في مقدّمة لم تتجاوز الثواني العشر، استغرب المُخرج وطلب مني زيادة في الوقت، فقلت له إن المُشاهد يريد الاستماع إلى الضيف لا إلى صاحب البرنامج، وكان اسم البرنامج (سياسة سياسة)".

لاحقاً تكرر الأمر في شبكة "الجزيرة" الإخبارية. يقول عن فترة عمله فيها: "في (الجزيرة) كنت مديراً للبرامج، فكان من الطبيعي أن أترك الكاميرا لأهلها، لكن حصل أن ظهرت في برنامج صباحي للحديث عن دورة برامجية جديدة، وظهرت لأقلّ من دقيقتين. وأذكر أني كنت طبيعياً أمام الكاميرا كما أنا. بعد ذلك البرنامج، قالت لي إحدى الزميلات: لماذا لا تظهر أمام الكاميرا؟ فقلت لها: ربما هذا ليس من شأني. هي ربما رأت فيّ شيئاً لم أرَه في نفسي، لكن أنا مؤمن بأن الجودة في اللغة قد تساعد المرء على أن يجيد الظهور أمام تلك الكاميرا".

"سيداتي سادتي"

عن تجربته الجديدة على شاشة "التلفزيون العربي"، وبرنامجه "سيداتي سادتي"، وانتقاله الدائم من تجربة إلى أُخرى، ومن حقل إلى آخر، يقول: "هذا برنامج أختلف فيه عن برامج سابقة بكونه برنامجاً ذاتياً. في كل محطة أُقدّم ما يُتفق عليه. في برنامج سابق كنت أُقدّم عرضاً عن اللغة مع قليل من الإضافات الذاتية مع قصص حدثت معي. في برنامج "سيداتي سادتي"، عندي قدر كبير جداً من الحرية في أن أقول الرأي السياسي والثقافي والأدبي، ومع ما حدث معي من صغائر الأمور: فأنا أذكر عن أُسرتي، عن مواقف حدثت معي وأُبرر لنفسي لكل ذلك. قد يقول المُشاهد: يا أخي، مالنا ومالك وأنت حين كنت تمشي في الشارع وسمعت فتاة صغيرة تُغني! لكن أنا أقصّ هذه القصة باللغة العربية الفُصحى. أنا أُريد هذه الفائدة، أُريد من اللغة العربية الفُصحى أن تنزل إلى الشارع، أن يُقال بها، ليس فقط اللغة الخشبية المألوفة المكرورة؛ قال وصرّح وأدان ويُذكر أن والجدير بالذكر".

يضيف حجاوي: "أريد من الفُصحى أن تكون ابنة الحياة، أن يُقال بها كل شيء. المشاعر، والتجارب الصغيرة؛ كيف يخلع المرء حذاءه وهو يمشي في الطريق ويرمي به على الحائط كي يُخرج منه تلك الحصاة الصغيرة التي علقت به. أُريد حكاية كل شيء بلغة عربية فُصحى. الشيء الآخر، أن توافه الأمور ليست تافهة. كل هذه ليست تافهة وينبغي أن تُحكى بلغة عربية فُصحى". وفي هذا السياق، وبخصوص اللغة الفُصحى.

نذهب لقصة الفئة المُستهدفة من برنامجه. هل فئة الشباب هي المُستهدفة، ولو كان اسمهم غائباً عن اسم البرنامج؟ يقول: "الشاب لا يريد أن يُشاهد إلا شاباً مثله، لا عجوزاً؛ هذه قاعدة عامة. إذا رأى الشاب شيخاً على الشاشة، فهذا يصرفه رأساً. لكن أحاول أن أكون مُنوعاً ومُسلياً، ودائماً ما أقول إن الترفيه هو القائمة التي لا يقوم بدونها الإعلام". يوضح: "الإعلام إخبار وتوعية وترفيه. والترفيه حتى في الأخبار، حتى عندما تنقل خبر زلزال، فأنت عليك أن تصوغ الخبر صياغة خبريه مُعيّنة حتّى أتابعه. هذا عنصر التشويق والترفيه؛ فأنا أحاول أن أحقن برنامجي بهما. لكن يبقى أن أمر الوصول إلى الشباب مسألة صعبة من شيخ".

المساهمون