عصرُ الأنوار و... الظلام

عصرُ الأنوار و... الظلام

24 ابريل 2018

(مروان قصاب)

+ الخط -
في بحث مهم صدر مطلع هذا العام عن دار لو سير الفرنسية، بعنوان "عمى، أديان، حروب وحضارات"، يناقش جان فرنسوا كولوزيمو، مؤرّخ الأفكار والديانات المعروف، الجانبَ المظلم من عصر الأنوار، معتبراً إياه المسؤول عن النزعة العدمية المعاصرة التي يشكّل الجهاد الإسلامي إحدى ظواهرها، مظهرا كيفية تمفصل الديني واللاهوتي في العالم الحديث، وصلتهما المعقّدة بالسياسيّ. هذا ويتخّذ البحث (544 ص) مفهوم "اللاهوت السياسي" للمفكر الألماني كارل شميت، نقطةَ انطلاق، لكي يبرهن أن السياسة، والعلمانية منها حتى، تستعير وتستعيد من الدين سماته وخاصيّاته. فعلى عكس ما يذهب إليه الباحثون والدارسون في تفسير الفوضى التي تحكم عالمنا الحالي، منتهين إلى ضرورة علمنة مجتمعاتنا، واستخدام العلمانية سلاحا مطلقا في وجه الصراعات الدينية، يقلب كولوزيمو الموازين والكليشيهات الرائجة بهذا الصدد، ليقيم صلةً مربكةً، إنما مقنعة، ما بين ثوّار الثورة الفرنسية (1789)، النيهيليين الروس (1905)، والإسلاميين المعاصرين، الذين تبنّوا جميعا الإرهاب، مقوّضا الفكرة القائلة إن كل الأديان تتساوى.
"إنّ طوبى السلام الدائم قد أدت إلى جحيم الحرب الدائمة"، يقول الباحث الفرنسي، لذا ترانا نسمع كل يوم عمّن يقتل باسم الله، في العراق، في فرنسا، في الساحل، أو في برمانيا. ما الذي تبقى إذن من عصر الأنوار ووعوده، وأين اختفى فوز العقل والتقدّم وتحرّر الإنسانية؟ ألم يكن من المفترض أن ينتهي الدين وكل ما يرفده من ظلامية وتعصب وتخلّف؟ يتساءل كولوزيمو، مضيفا أن "شمس الحداثة احترقت وتحجّرت، وهي ما عادت تنيرنا، بل أنها باتت المسؤولة عن كسوف المعنى الذي يغرقنا اليوم في الظلام".
من خلال استحضار كمّ هائلٍ من المعارف العميقة والمتنوّعة في حقول الجغرافيا السياسية، والفلسفة والأدب والتاريخ، يضع الباحثُ القرونَ الثلاثة الماضية تحت المجهر، ففيها تمّ الإعلان عن موت الإله، في حين أن أسطورة التطوّر والتقدّم لا تني تنازع أمام أعيننا، بعد قيامها بتأليه الإنسان على يد الإنسان. لقد اعتبر الدينُ خرافةً وقفت حاجزا في وجه تحرّر الإنسان، في نظر عصر الأنوار، فكان أن باشرت حركةُ العلمنة إسباغَ صفات الإله على الدولة والسياسيّ. بهذا، ابتدع عصرُ الأنوار أدياناً علمانية، لها لاهوتيّوها وطقوسها وعقائدها وأضاحيها، وقد أدّت انحرافاتُها إلى كوارث لا تقارن بتلك التي أنتجتها الأديانُ التاريخية. فالرعب الذي نشره روبيسبيير في الثورة الفرنسية ولّد عبادة الكائن الأعلى التي كانت المقصلة من طقوسها. أما النازية فشكّلت ديانةً وثنية جديدة وضعت المحرقة (أي القضاء على اليهود علامة مضادة لعبادة الأصنام) في رأس مشاريعها. الشيوعية السوفييتية من جانبها سعت إلى القضاء على الكنيسة الأرثوذكسية، وهي بذلك استولت على كل سماتها: الحَبران لينين وستالين، المهرطق تروتسكي، العقيدة الماركسية، القداديس الكبيرة التي كان الجيشُ الأحمر يقيمها أمام الكرملين. "من خلال التأكيد على عدم وجود آخرة بعد الموت، تم ابتكار آخرة على الأرض هي الجحيم التوتاليتاري. بعد إعلان موت الإله في القرن التاسع عشر، هو موت الإنسان ما جرى في مجازر القرن العشرين".
إلى جانب عصر الأنوار، يتناول جان فرنسوا كولوزيمو نقطة عمى أخرى، هي العام 1979 الذي شكّل منعطفا مهما في تاريخ البشرية. إنه عام الثورة الإسلامية في إيران الذي تزامن واستلام ريغان والإنجيليين الحكم في الولايات المتحدة، ودحر التوسّع السوفييتي في أفغانستان على أيدي مجانين الله. لقد رأت أوروبا في هذا كلّه عودةً إلى العصور الوسطى، في حين كان التاريخُ الحديث يتمّم تألّه السياسيّ، واستئصال كل ما يتصل بفكرة التسامي. طُرد الديني من الحيّز العام، فتحوّل هذا الأخير إلى ديانة، كما هي حال الديانة المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث نجد ذكر الله على الأوراق النقدية، ونرى الرئيس يلقي قسمه على الإنجيل. والنتيجة؟ تعبئة وحشد وتحديد فوارق "بيننا" و"بينهم"، لأنهم هم المهرطقون والكفرة الواجب إلغاؤهم.
تبقى الخلاصة التي ينتهي إليها الكاتب: أجل، هناك ما هو أسوأ من الموت، إنه الموت الروحيّ.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"