عن مساءاتٍ مثقلةٍ بالكآبة

عن مساءاتٍ مثقلةٍ بالكآبة

06 يونيو 2018
+ الخط -
"يا لكآبة ذلك المساء، مساء الخامس من حزيران، في القدس، صخرة من الغم تربض على قلبي بكل ثقلها، الحرب؟ يا للهول".
هكذا تؤرّخ الشاعرة الفلسطينية، فدوى طوقان، لذلك المساء الرمادي الثقيل الذي جثم على صدر القدس، قبل أكثر من نصف قرن. كانت فدوى منذ عصر اليوم السابق هناك استجابةً لنداء صديق اقترح عليها المغادرة إلى بيروت أو عمان، لكنها رفضت، عاشت "الانكسار الحزيراني"، كما تسميه، بالطول والعرض. كانت الشاهدة على "توقف الناس العابرين عند أجهزة الراديو في المقاهي والدكاكين، صامتين واجمين، فيما كلمات أحمد سعيد تنطلق من "صوت العرب" كالقذائف، متلاحقةً، محمومةً، تبشّرنا بالخسائر الإسرائيلية المتتالية". وقد انكشف الحال فيما بعد: ضرب المطارات الحربية في مصر، امتداد القتال البري إلى سورية، معركة الشيخ جراح العنيفة في القدس، وصول الدبابات الاسرائيلية إلى أريحا، الاستيلاء على رام الله، احتلال قلقيلية، احتلال نابلس ثم وقف إطلاق النار بقرار لمجلس الأمن، "بعد أن اكتمل السقوط التام، سقوط الضفة الغربية والقطاع والجولان وسيناء".
وكما بشّر أحمد سعيد مستمعيه بانتصاراتٍ وهميةٍ على العدو، فإن راديو دمشق هو الآخر كان يتحدّث عن "مسح إسرائيل من الخارطة"، و"إبادة الوجود الصهيوني إبادة كاملة"، فيما كان المواطنون العاديون يتداولون ما يصل إليهم من الجبهة في لهفةٍ وقلق، حيث كانت القوات الاسرائيلية تتقدم في هضبة الجولان، وتحاصر القنيطرة وتقصف دمشق. وسجّل الإعلام السوري سقطةً مريعةً في مأزق تغييب الحقائق، وإخفاء وقائع الكارثة، مثلما سجل الإعلام المصري نفسه، وهذا ما دفع محمد حسنين هيكل إلى أن يحتال في إطلاق تسمية "النكسة" على النكبة الفلسطينية الجديدة، للتهوين من وقعها على النفس، وقد باع مواطنيه هذا الوهم، في وقتٍ كانوا فيه أحوج ما يكونون إلى مداراة النفس ولو بالأوهام، ولو بالأكاذيب. وهكذا دخلت تسمية هيكل القاموس السياسي العربي، ثم عندما توالت النكبات والنكسات والهزائم العربية فصولاً، لم يعد ثمّة فرق بين هذه التسمية أو تلك.
بعدما مر ذاك المساء الحزيراني الكئيب، ودخل التاريخ كيوم من أيامنا السود، تعدّدت المساءات الحزينة المثقلة بالكآبة، حتى امتدت ستة أيام بلياليها، ثم استطالت لتصبح أسابيع وشهوراً،
 ولتقيم بيننا أمداً أطول. سجلت فدوى بعض وقائعها في كتاب عنوانه "الرحلة الأصعب"، روت فيه كيف أقامت بين ظهراني أعدائها غريبة الوجه واليد واللسان، كما عاش الفتى العربي في شعب بوان قبلها بألف عام، مع أن فدوى في بلدها المغتصب، وليس في بلدٍ غريب عنها، وتذكّرت كيف واجهتها مرة امرأة إسرائيلية صارخة في وجهها: "لن ندعكم ترفعون رؤوسكم أبداً، كل عشر سنوات، لا بد من ضربة نهوي بها على رؤوسكم"، وكيف فجّرت تلك الصرخة عندها كل غضبها، وحقدها المقدس على محتلي بلدها. وكان من الصعب عليها أن تستسلم، وأن تقنع نفسها أن القدس تفلت من بين يديها من دون أن تفعل من أجلها شيئاً. ولذلك قرّرت، وهي الشاهدة بأم عينيها على ما يجري ويدور أن تتجاوز الصدمة، وأن تكرّس نفسها لمقارعة العدو بالشعر والقصيد: على أبواب يافا وقفت وقلت للعينين/ قفا نبك/ على أطلال من رحلوا وفاتوها. ... وتستدرك: أرفع جبهتي معكم إلى الشمس/ كزهر بلادنا الحلوة/ فكيف الجرح يسحقني/ وكيف اليأس يسحقني/ وكيف أمامكم أبكي/ يميناً بعد هذا اليوم لا أبكي.
وتنتشر قصائد فدوى طوقان في كل فلسطين، حتى تصل إلى وزير الحرب الإسرائيلي، موشي دايان، الذي قال إن قصيدة واحدة منها تكفي لخلق عشرة من رجال المقاومة. وتمنى لو كان في إسرائيل شعراء مثلها يدافعون عن قضيتهم. وقد استدعاها إلى مكتبه بأمل أن يدفعها إلى تخفيف نشاطها الداعم للمقاومة، لكنها قارعته بالحجج، وفنّدت منطقه المعادي: "لست أكرهكم كيهود، لكنني أكرهكم كمحتلين، نعم.. عانى اليهود كثيراً، ولكن لماذا نكون، نحن الفلسطينيين، من يدفع الثمن؟". واعترف دايان لاحقاً في كتابه "قصة حياتي" بأن فدوى طوقان "امرأة شجاعة".
وإذ نذكر الشاعرة في رحلتها الأصعب، في استعادة النكبة الفلسطينية الثانية، فلأنها كانت أيقونة فلسطين التي ظلت توقظ فينا مطامحنا وآمالنا في التحرير والعودة، ولم ينسها رفاقها بعد رحيلها الأبدي، إذ سجلوا على لافتة قبرها ما كانت تطمح له وتريده:
كفاني أموت عليها/ وأدفن فيها/ وتحت ترابها أذوب وأفنى/ وأبعث عشباً على أرضها/ وأبعث زهرة إليها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"