غربة في الوطن والمنفى

غربة في الوطن والمنفى

29 مارس 2018
+ الخط -
كان الأمل في الغربة أن تكون مهرباً من وجع الذكريات، حلوها ومرها، إذ ظننت أني كلما رفعت سقف المسافات بيننا حررتني منها أكثر، وأني سأقف هنا في هذه الشوارع الأوروبية الرتيبة الوسيعة، ولن أتذكر يوماً بيوتنا العشوائية، ولا شوارعنا المسقوفة بالهموم. لكن وجدتني أتذكر حتى بائع الرغوة المغشوشة قليل الحضور، والذي لطالما كان غيابه الطويل لغزاً حيّر الصغار في حارتنا، قبل أن يكبروا، ويعلموا أنّه رجل مخابرات، يطل علينا فقط في المواسم التي يغيب فيها بائع الذرة عن الحارة.
بدأت تعود إلى ذاكرتي تفاصيل دقيقة، لا معنى لها، كاعوجاج ما كان موجودا في درج بيتنا يحتاج ترميما، وآخر له أثر لطيف يترك ابتسامة خفيفة كطلة ساعي البريد، وهي أول المهن التي رشحني لها العشاق في الحيّ، وأحبها إلى قلبي بعد مهنة الكتابة على الجدران، قبل أن تكشفني أمي وتجبرني على الاستقالة من الاثنتين، من دون أن يخلو الأمر من بعض المشاكسات أحياناً.
في الغربة، قد يبكيك مشهد درامي في مسلسل قديم، لم يكن يؤثر فيك حين رأيته أول مرة قبل أحد عشرعاما، لكنه يصبح اليوم أعظم ما جسّده الفن في تاريخه، حين يلامس مكانا عميقا في روحك يصعب حتى عليك الوصول إليه.
وفي الغربة، قد تعيد مثلي متابعة أفلام الكرتون بنهم الطفولة السابق، وكلما سمعت موسيقى غربية وأعجبتك، تهرب خلسة لتسمع في الليل موسيقى شرقية، وكأنك تعتذر للعود عن التفكير في خيانته للحظة، فتندم.
لا أدري لماذا تدق في ذاكرتي دوما أغاني مطربة أرمنية اسمها لينا شماميان، استطاعت أن تخلق علاقة وثيقة تربط حنجرتها برائحة الياسمين وأزقة الشام القديمة، ولا أحد يعرف السر في ذلك.
في الغربة أيضا، قد تتكون لديك حالة عدائية للمفهوم الإنساني في هذه القارة الشقراء، وقد تراودك ظنون مثلي بأنه ليس من العدل أن يبكي جارنا على مرض كلبه الجميل، دوف، وأن أبكي أنا على خالتي الخنساء التي دفنت أبناءها الثلاثة بجوار بعضهم وحيدة تحت القصف، ولم أجرؤ حتى اللحظة على مكالمتها، ولن أجرؤ.
في الغربة، تنتعش الذاكرة كل فترة لتكون في أوجها فتصحو ترانيم الحب الأول وخربشات المراهقة العنفوانية، وتجربتك الفاشلة الأولى في تكوين صداقات في الجامعة، ثم تجاربك الناجحة، ويصحو صوت أول انفجار في رأسك وصورة أول مجزرة حدثت أمامك، فترى حقائب المهجرين المبعثرة في كل مكان، وصورة الطفل المذهول الذي يحاول إدراك ما حدث، والطفل الذي لم يدرك بعد، وصورة أول طابور ذل مخصص لتجديد إقامات النازحين السوريين في بلد عربي، وصورة الذل المستمر حتى آخر طابور مررت فيه، قبل أن تغادر، وتجري في رأسك عملية حسابية بسيطة، تختصر سنين من الحرب والألم "تراني كم خطوة مشيت من بيتنا حتى وصلت هنا"، ثم تأخذ تنهيدة طويلة من بين كل هذه الصور، وكأنك استرحت لتوّك من رحلة شاقة.
ربما هي غربة في الوطن والمنفى معاً، لكنها أبقت على مشاهد كثيرة حية كانت قد عربشت على جدران الذاكرة منذ الصغر، كما يعربش النبت على حائط أبيض في إحدى زوايا حيّ منسية، فعلى غفلة يكبر الزرع، وتتدلى أغصانه بكثافة لتخفي معالم أي فراغ كان موجوداً هنا قبله، وعبثاً إن حاولت إزاحته بعد عُمر فلن يعود الحائط أبيض، وبلا شوائب، كما كان.
83E4B3E5-CB70-4615-A47E-8AD0EA8E5488
83E4B3E5-CB70-4615-A47E-8AD0EA8E5488
آلاء السهلي (فلسطين)
آلاء السهلي (فلسطين)