فخ الاستسلام للمرارة (2/3)

فخ الاستسلام للمرارة (2/3)

13 يناير 2020
+ الخط -
قال لي الأستاذ عبد الحميد توفيق زكي إنه كان أول من اكتشف عبد الحليم حافظ كمطرب، أيام أن كان اسمه عبد الحليم شبانة، وكان وقت أن التقاه لا يزال عازف أوبوا يسأل الله حق النشوق ويكتم ولعه بالغناء، وكان أخوه الأكبر إسماعيل شبانة قد سبقه إلى تحقيق حلم الغناء، وهو الذي كان سبب تعارف عبد الحميد على عبد الحليم، فقد كان إسماعيل تلميذاً لعبد الحميد ثم صار صديقه، بعد أن جعله عبد الحميد المغني الرئيسي لفرقة الأنغام الذهبية في الإذاعة المصرية، التي كان عبد الحميد مسئولاً عنها إلى جوار مسئوليته كمراقب للموسيقى في وزارة التعليم، أيام أن كانت تستحق اسمها.

كنت "في البَلالة" حين التقيت بالأستاذ عبد الحميد، فلم أكن أعرف أصلاً أن لعبد الحليم أخاً أكبر جميل الصوت اسمه إسماعيل، مع أنني كنت قد استمعت إلى بعض أغنيات سيد درويش الجميلة التي تذيعها الإذاعة بصوته، وبالتالي لم أكن قد سمعت من قبل بقصة قيام عبد الحميد توفيق زكي بتقديم عبد الحليم للغناء في الإذاعة، كحل مرتجَل لورطة غياب كارم محمود عن وصلة غناء منتظرة على الهواء، كان عبد الحميد قبلها قد استمع إلى صوت عبد الحليم في بيت إسماعيل، وهما يقفان في المطبخ ينتظران تسخين حلة بامية طبخها عبد الحليم بنفسه، فأعجب بطريقة غناء عبد الحليم لأغنية "مضناك جفاه مرقده" التي قال عبد الحميد مهرطقاً إن عبد الحليم يغنيها أفضل من عبد الوهاب ذات نفسه، ولم أكن لأرد عليه فأنا في النهاية في بيته.

لم يكن كارم محمود معروفاً بضربه لـ "أوردرات الهواء"، لكن نصيب عبد الحليم شاء أن يغيب بأعجوبة عن تلك الوصلة، فيقوم عبد الحميد على مسئوليته بتقديم عبد الحليم لكي يغني أغنية (ذكريات) التي كانت أول أغنية يشدو بها عبد الحليم في الإذاعة عام 1951 تقريباً، ومع أن تلك كانت مخالفة تستوجب التحقيق والعقاب القانوني، إلا أن رئيس الإذاعة حافظ عبد الوهاب تحمس للصوت الذي أنقذ الموقف ودعمه وسانده في مواجهة الغاضبين والمقللين من شأن قدراته الصوتية، وسمح له بأن يكرر ظهوره الإذاعي، فقام عبد الحليم باستئذان حافظ عبد الوهاب في حمل اسمه ليكون جزءاً من اسمه الفني، عرفاناً بجميله عليه، ولكي يفصل نفسه عن أخيه إسماعيل الذي كان قد سبقه إلى خوض المجال الفني، وهي حركة رآها البعض ذكاءً واعتبرها البعض انتهازية، لكن عبد الحميد لم يقطع في ذلك برأي، وحين سألته ألم يكن من الأولى إذا كان عبد الحليم راغباً في تغيير اسم شبانة، أن يسمي نفسه "عبد الحليم زكي"، قال إن حافظ عبد الوهاب كان أحق منه بأن يطلب عبد الحليم الانتساب إليه فنياً، لأن مساندته لعبد الحليم كانت حاسمة في تغيير مساره من عازف إلى مطرب.


في السنوات التي تلت ذلك الموقف، غنى عبد الحليم حوالي 24 أغنية من ألحان عبد الحميد، كان آخرها أغنية ظهرت في أواخر عام 1954 كتبها مرسي جميل عزيز، لكن مسار عبد الحليم تغير تماماً حين قرر محمد عبد الوهاب أن يقوم باحتكار صوته لمصلحة شركته، وكان عبد الوهاب من الذكاء بحيث لم يحتكر التلحين لعبد الحليم، بل شجعه على مواصلة التعاون مع صديقيه كمال الطويل ومحمد الموجي الذين غيرا مساره الفني تماماً، لدرجة أن الكثيرين يظنون أن أول لحن قدمه عبد الحليم في الإذاعة كان لحن كمال الطويل لأغنية (لقاء)، وهو ما نفاه كمال الطويل أكثر من مرة، مؤكداً أن أول أغنية قدمها عبد الحليم في الإذاعة كانت من تلحين عبد الحميد توفيق زكي، وكان تكرار نشر تلك المعلومة الخاطئة في الصحف وبرامج الإذاعة يحزن عبد الحميد ويقلّب عليه المواجع.

في فترة ما، بعد بدء التعاون الإنتاجي بين عبد الحليم وعبد الوهاب، اختلف الاثنان بسبب تشدد عبد الوهاب في تطبيق شروط العقد الذي أمضاه مع عبد الحليم، فبدأ عبد الحليم يفكر في فسخ عقد الاحتكار والتمرد على سطوة عبد الوهاب، الذي كان وقتها يشغل منصب رئيس جمعية المؤلفين والملحنين والتي شارك في إنشائها، في الوقت نفسه كان عبد الحميد توفيق زكي يرأس جمعية أخرى ترعى حقوق المؤلفين والملحنين، لكنها تضم عدداً من الشعراء والملحنين الأقل شهرة، وحين لجأ إليه عبد الحليم تلميذه وصديقه القديم طالباً مشورته، شجعه عبد الحميد على فسخ عقده مع عبد الوهاب، ووعده بمساندته قانونياً، لكن عبد الحليم قرر في آخر لحظة ألا يستمع إلى نصيحته واختار الوصول إلى حل وسط مع عبد الوهاب، الذي كان ذكياً هو الآخر، وقدّر انحياز عبد الحليم له، فقرر بعد ذلك بسنوات إشراك "صوت المستقبل" في شركة (صوت الحب) التي لن تكتفي بالإنتاج الغنائي لعبد الحليم، بل ستنتج له أفلاماً سينمائية، بعد أن ضمت إلى صفوفها مدير التصوير الأشهر وقتها الحاج وحيد فريد.

بلع الأستاذ عبد الحميد ضيقه حين بلغه خبر استئناف التعاون بين عبد الحليم وعبد الوهاب، وحين سافر عبد الحليم إلى باريس في أول رحلة علاجية له، سافر عبد الحميد لزيارته في باريس التي كان أخوه يقيم فيها، ووقف إلى جواره في محنة مرضه، واحتفل بعودته إلى مصر بسلامة الله، وحين عرف أن عبد الحليم يحضر لعمل دويتو غنائي مع شادية في أول فيلم يلعب فيه دور البطولة، اقترح على عبد الحليم أن يقوم بغناء دويتو "انت حبي" الذي كان عبد الحميد قد لحنه لعبد الحليم ونادية فهمي، وغناه الاثنان في الإذاعة، وحين رد عليه عبد الحليم بعفوية مستنكراً ذلك الاختيار، وكأنه يرى أنه اختيار أقل من المستوى الذي وصل إليه عبد الحليم لحظتها، كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، ليأخذ عبد الحميد بعدها جنباً من عبد الحليم، الذي أصبح عبد الوهاب عقله المفكر وراعيه وسنده الأبرز في الوسط الفني.

هل كان ذلك الموقف السبب الوحيد في إشعال نيران الكراهية في صدر عبد الحميد توفيق زكي تجاه محمد عبد الوهاب؟ بالتأكيد لا، فقد كانت للرجل أسباب فنية يسهب في تفصيلها، ولم يعد يقصر ذلك على جلساته الخاصة أو حواراته العامة، بل قام بوضعها على الورق حين كتب كتابه (المعاصرون من رواد الموسيقى المصرية) الذي أصدرته سلسلة (ذاكرة المصريين) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب قبيل وفاته. بالطبع لا يمكن لأحد أن ينكر حق من شاء في نقد عبد الوهاب بضراوة، فلم يكن عبد الوهاب مقدساً ولا خالياً من الأخطاء، أو الخطايا إن شئت، لكنك في الوقت نفسه تكون مخطئاً لو غضضت الطرف عن حكاية استيلاء عبد الوهاب على عبد الحليم ابن عبد الحميد وتلميذه الأبرز، وأنت تحاول فهم أسباب تلك الكراهية العارمة التي كان الرجل يحاول فرملتها إلى حد ما، حين يتحدث عن عبد الوهاب في حواراته التلفزيونية والإذاعية، فيتحدث بشكل عام عن الذين قاموا بمسخ الوجه الأصيل للموسيقى العربية، وإغراقها في بحور التغريب والفرنَجَة، وما إلى ذلك من كلام لا يحتاج إلى فكاكة لإدراك من المستهدف به.


كان الأستاذ عبد الحميد قد بدأ في إسماعي نبذة من ألحانه، قبل أن يتحفني بآرائه في عبد الوهاب وعبد الحليم المسكين الذي وقع في شباكه، وكنت في غاية الحيرة، لأن بعض تلك الألحان غنتها أصوات كنت أحبها مثل كارم محمود وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب وهدى سلطان، لكنني لم أعجب بأي منها، ووجدتها أقل من العادية، حتى أغنياته التي كان يعتبرها أفضل ما غناه عبد الحليم، لم أجد فيها ما يشد انتباهي، وبدا لي أن صوت عبد الحليم فيها تائه مخنوق، يبحث عن سكة ما لكي ينطلق، وأنه لم يجد تلك السكة إلا حين منحه الموجي لحن (صافيني مرة) وكمال الطويل لحن (على قد الشوق)، والذين كانا في رأي الكثيرين نقطة التأسيس الحقيقية لعلاقة عبد الحليم مع الناس، التي ساهم في تطويرها ملحنون كثيرون بعدهما.

حين انحرف مسار الحديث مع الأستاذ عبد الحميد نحو جناية عبد الوهاب على الموسيقى العربية بشكل عام، وعلى عبد الحليم بشكل خاص، لم يتح لي أن أستمع إلى أغنياته الأخرى التي صنعها لأصوات لم أكن قد سمعت لها الكثير مثل عباس البليدي وإبراهيم حمودة وشريفة فاضل وسعاد مكاوي وشفيق جلال، وكلها أصوات قوية ومعبرة، أو لأصوات لم أكن قد سمعت عنها من قبل مثل أجفان الأمير وجلال فكري ونازك وعصمت عبد العليم وعبد الروؤف إسماعيل وصلاح الدين حمدي وهيام عبد العزيز، وحين مرت الأيام، وحبانا الله بنعمة الإنترنت، وما عليه من مواقع تحفظ التراث الغنائي مثل موقع سماعي وراديو مصرفون، وبدأ بعض السميعة يشاركون غيرهم فيما يحتفظون به من كنوز على قنواتهم في اليوتيوب والساوند كلاود، بدأت أعيد الاستماع إلى بعض الأغنيات التي لحنها عبد الحميد توفيق زكي، لعلي أجد فيها ما لم أجده قبل ربع قرن، وأنا أجلس إلى جواره، لكني وجدت إحساسي كما هو، بل إنني مت من الضحك حين استمعت إلى الأغنية التي كان يفتخر بها دائماً، أغنية "بدلتي الزرقا لايقة فوق جسمي"، والتي غناها عبد الحليم تماشياً مع سياسات العهد الجديد المحتفي بالعمال والفلاحين، وحاشا لله أن أقول إن عبد الحميد صنعها أو أن عبد الحليم غناها نفاقاً لثورة يوليو، فليس لي أن أفتش عن النوايا، بل أحكم فقط على الناتج النهائي، وهو حكم لم أجده في صالح تلك الأغنية، فقد صنع عبد الوهاب أغنيات وطنية كثيرة سار بها في ركب الضباط الأحرار، ومع ذلك لا تملك إلا الإعجاب بموسيقاها، حتى وإن وجدت كلامها طافحاً بالنفاق والابتذال، أو تخيلته وهو يغنيها بحماس مفتعل خلال وجود حضرة ضابط ما في استديو الإذاعة، وأظن أن كثيراً من تلك الأغاني، لو تم تركيب كلمات عاطفية عليها، لأصبحت من أنجح الأغنيات الآن، لكن مهمة من سيفعل ذلك لن تكون سهلة، لأنه سيتعرض لهجوم حاد من حراس الوطنية الساهرين على الإنترنت.

استولت حالة الأستاذ عبد الحميد على تفكيري، حتى بعد أن انتهت جلستنا الطويلة، بالتأكيد تعاطفت معه وأنا أراه لا يزال برغم كل تلك السنين، يشعر بالمرارة والأسى، لأنه لم يحصل على التقدير اللائق من شاب آمن به ودعمه، حين كان الجميع يسخرون من رغبته في الغناء بإمكانياته الصوتية المتوسطة، ومع إن شكوى الأستاذ عبد الحميد كانت مريرة، إلا أنها كانت تحمل بداخلها الكثير من الكبرياء والاعتزاز بالنفس واليقين أن عبد الحليم هو الذي خسره، وخسر معه فرصة تحقيق نقلة جادة في الموسيقى العربية، مؤكداً أنه حين يقول ذلك، لا يقوله كمجرد ملحن يتحمس لشغله، ولكن يقوله كمؤرخ موسيقي ودارس متبحر في الموسيقى الغربية قبل أن يدرس الموسيقى العربية، وأنه لا يصدق أن عبد الحليم الذي كان يسخر معه في سنين البدايات من تلك المعاني والألحان المبتذلة والمكررة التي تسود في الغناء العربي، وافق على أن يقوم بإعادة إنتاج ما كان ينتقده، في كثير من الأغنيات التي يعترف أن بعض ملحنيها قاموا بالاجتهاد في الشكل الغنائي، لكنه يرى أنهم لم يحققوا التطور اللافت الذي تستحقه الموسيقى العربية، وهو كلام حين تفكر فيه بعد مرور السنين ستجده شديد الوجاهة، لكن وجاهته تنقص كثيراً حين تستمع إلى الأغنيات التي لحنها الأستاذ عبد الحميد، فتكتشف أنه ربما كان بارعاً في التنظير والتحليل، لكنه لم يكن بارعاً بنفس القدر في التلحين والإبداع.

.....

نختم غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.