فضائح التحرش: صدام ثقافي آخر بين العالمَين الفرانكفوني والأنغلوساسكوني

فضائح التحرش: صدام ثقافي آخر بين العالمين الفرانكفوني والأنغلوساسكوني

12 يناير 2018
كاترين دونوف أبرز الموقعات على عريضة "لوموند"(فاليري هاش/فرانس برس)
+ الخط -
منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبعد أن ضجّ العالم بـ"فضيحة وينستين"، خرجت لائحة بعشرات الأسماء لفنانات وعاملات في المجال الفني يتحدثن عن تجاربهنّ مع المنتج الأميركي. سرعان ما تحوّلت إلى حملة عالمية تحت اسم "أنا أيضاً" (me too)، سجّلت آلاف الشهادات التي تروي قصصاً وحكايا عن التحرّش والاعتداءات الجنسية التي تعرّضت لها هؤلاء النساء.
على نسق حملة metoo# الأميركية التي أخذت طابع الاستياء الجماعي والغضب ضد المغتصبين في وسائل الإعلام الأنغلوساسكونية، أطلقت سيدات فرنسيات في تلك الفترة حملة "افضحي خنزيرك" balancetonporc#، لتجسيد معاناة الآلاف في فرنسا. نساءٌ حملت أوجاعهنّ افتتاحية أسبوعية Elle النسوية كتحية للممثلة ماري ترانتينيان التي توفّيت تحت ضربات زوجها برتران كانتا سنة 2003.
وفي سياق الحملات التي أصبحت تعبيراً عن شعور عام من رفض الاعتداء الجنسي، عبر استحضاره في شهادات حيّة في مسار مواجهة أشمل لنظام بطريركي يبرّر الاغتصاب ويكرّس الذكورية ورفض المساواة بين الرجل والمرأة - أطلقت مئة سيدة فرنسية، من على منبر صحيفة "لوموند"، عريضةً يُعبّرن فيها عن استيائهنّ من حملات التضامن metoo وbalancetonporc. ورأت الموقّعات في الحملات "تقويضاً للحرية الجنسية" وتوجّهاً لما سمّينه "تكريس الكراهية ضد الرجال".
من بين الموقّعات على العريضة، يبرز اسم الممثلة الفرنسية كاترين دونوف التي تتعرّض منذ لحظة إطلاق العريضة لهجوم كبير في الصحف العالمية، الأميركية والبريطانية بشكلٍ خاص، وتلاقي استنكاراً كبيراً من ناشطات نسويات فرنسيات يعتبرن أنّ كلام دونوف "سقطة أخلاقية تذهب لمهادنة التحرّش وقبوله عندما يكون مهذّباً"، كما قالت الناشطة كارولين دو هاس في لقاء تلفزيوني مساء الأربعاء. كما يرِد في العريضة اسم الكاتبة والناقدة الفرنسية كاترين مييه، صاحبة كتاب "الحياة الجنسية لكاترين م."، الذي صدر سنة 2001 وترجم إلى 33 لغة، وأحدث بمحتواه "الفجّ" صدمة كبيرة في الوسط الثقافي الفرنسي.


معركة تغذّيها أسرار الفن السابع ومفاهيم الحرية
أن تخرج سيدات فرنسيات ليعترضن على الحملات التي تدافع عن النساء اللواتي يتعرضن للتحرش والاغتصاب، فذلك يعني أنّ هنالك تيّاراً نسوياً يعيد التساؤل مرة جديدة عن التفاوت الكبير بين الثقافتين الفرانكفونية والأنغلوساسكونية في النظرة إلى الحياة الخاصة للأفراد. وهذا الأمر ينسحب تعريفاً أعمق حول "الفضيحة" وما يترتّب عنها من مآلات تطاول التغيير الوظيفي، والاستقالة أحياناً من مواقع سياسية في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. فإنّ الفعل نفسه، أي الفضيحة، سيفهم في سياق شرح أعمق للحريات الجنسية والحياة الخاصة في فرنسا.
لكنّ الصحافة البريطانية والأميركية ذهبت أبعد من ذلك في قراءتها لبيان "لوموند" وأصرّت على تصوير كاترين دونوف في قلب الكادر الذي "يهادن التحرّش ويبرّره"، كما قالت "ذا غارديان" في مقال خصّصته لاستنكار المواقف الصادرة عن السيدات الفرنسيات. وربطت "غارديان" بين كلام دونوف وصورتها الأولى في فيلم belle de jour للمخرج الإسباني لويس بونويل، حيث تلعب دونوف دور العاهرة. وجعلت اليومية البريطانية من دور الممثلة الفرنسية "لساناً ناطقاً" باسم "المدافعين عن التحرش".
واستعادت "تيليغراف" دفاع دونوف عن المخرج البولوني رومان بولانسكي المتّهم والمدان بالتحرش الجنسي، لتسقط عليه دفاع دونوف الحالي ورفيقاتها عمّا وصفته بـ"التحرّش الملحّ أو الأخرق". وفي ردّ سريع على ما قامت به "تيليغراف"، قامت "لا ريبابليكا" الإيطالية بعرض تغريدة لسامنتا جيمير، ضحية رومان بولانسكي، عبّرت فيها عن دعمها لعريضة دونوف ومييه ورأت فيها "أنجح وسيلة لمواجهة تلك المظلومية التي ترفعها حملات تدّعي الدفاع عن النساء اليوم".
وفي السياق نفسه، صوّبت "نيويورك تايمز" الأميركية، ولاقتها في ذلك يومية الـ"باييس" الإسبانية، على توقيت تلك العريضة الذي جاء في اليوم التالي لاحتفالية "غولدن غلوب" التي شهدت تضامن نجمات هوليوود مع زميلاتهنّ اللاتي تجرأن وكشفن وقائع التحرش أو الاعتداءات الجنسية التي مورست عليهنّ من أصحاب النفوذ في عالم صناعة السينما.
على أنّ تلك العريضة التي تحمل دعوة صريحة إلى مواجهة ما يصطلح عليه "البيورتانية" (puritanisme) الذي تمارسه حملات الدفاع عن النساء، لا يمكن أن يتمظهر بشكل اعتراض على منظومة أخلاقوية إلا في بلد كفرنسا، له تاريخ في قراءة مغايرة للإباحية والعلاقات الجنسية (libertinage) التي تراها "الأنغلوسفير" نوعاً من "المجون" يسلّع كيان المرأة ويرده إلى أداة جنسية بحتة.
وفي الأخذ والرد بين الصحافتين، عودةٌ إلى تعريفات لمفاهيم التحرّش والحرية الجنسية وارتباطاتها الاجتماعية والمسلكية القضائية، ودعوةٌ إلى فتح نقاش أوسع حول قضية التحرّش وكيفية تدويرها وعلاج نتائجها. وهو ما جاءت على ذكره صحيفة "دي فيلت" الألمانية حين قالت إنّ "تلك العريضة كسرت صمتاً يخيّم على الحالة النسوية الأنغلوساسكونية، وهي بأية حال مهما كان الموقف منها، سلباً أو إيجاباً، فإنها اخترقت مجدداً "تابو" التزام الصمت أمام آلام الضحايا والانسياق وراء دفاع قد لا يكون في صالحها".
ولا يبدو مضمون العريضة في "لوموند" إشكالياً عند البعض بقدر ما هو تساؤل مشروع لتيار يرى مشكلة في تحويل شهادات السيدات الضحايا إلى خلاصة تستخدم في إرساء معايير تحدّد الصواب من الخطأ في الحياة الجنسية للأفراد. وإذا كانت حملات الدفاع قد رفعت صوت النساء عالياً في وجه الوحوش الكاسرة، فإنّها اختزلته في ميدان الاستياء الجماعي ومظاهر الغضب وسحبته من بساط المواجهة الاجتماعية، وكرّسته كخط مواجهة جندرية لا تقيم للضحايا اعتباراً إلا في قياس التنميط الهوليوودي لفرائس وينستين.

والواقع أنّ الأصوات الأنغلوساكسونية المعترضة بشدة على "رفض التزمت وبث الكراهية تجاه الرجال" في بيان النساء الـ 100، لاقتها فرنسيات في الحقل السياسي والإعلامي. فعبّرت الوزيرة السابقة، سيغولين روايال، عن "أسفها وإحباطها بعد رؤيتها لاسم الكبيرة كاترين دونوف على العريضة". وسخرت وزيرة المساواة بين الجنسين في حكومة إدوارد فيليب الحالية من بعض ما جاء في البيان.
وعبّرت مئات الناشطات الفرنسيات على مواقع التواصل الاجتماعي عن غضبهنّ من الموقّعات على البيان وأرفقن تغريداتهن بدعوات للردّ على عريضة لوموند.

المساهمون